لمحة سريعة عن حياته : في عام 1960 كان الطفل مردخاي فعنونو بلغ السنة السادسة من عمره ، عندما قالت أمه لأبيه ، العامل بأحد الحقول الفلاحية في المغرب ، إن عليه أن يرتب إرسال مردخاي إلى المدرسة هذا العام . حينها رد عليها زوجها بحدة ( أية مدارس و أية دراسة ؟ نحن يهود و المغرب لن تكون بلدنا أبدا ، و لن أسمح لأبنائي بالعيش فيها . لقد رتبت بدلا من ذلك أمر رحلتنا جميعا إلى أرض الميعاد ، إلى فلسطين ، و كلها أيام و سنكون هناك و هذا ما يجب أن ترتبي أمور حياتك عليه و ليس شيئا آخر ) .
هاجر فعنونو رفقة عائلته إلى فلسطين . و في سنة 1980 و خلال تناوله لوجبة الطعام صحبة عائلته قال لوالده : " أبي ، لماذا نحن يهود ؟ " . و قبل أن ينتظر رد والده ، خرج من المنزل و ظل منقطعا عن زيارة أهله أو الإتصال بهم ، و تغيرت شخصيته تماما ، و أصبح يشعر في داخله بانفصام في الهوية . و شعر أنه اكتشف الدولة العبرية على حقيقتها دون تزوير ، و انقطع عن الديانة اليهودية كليا . و بعد سنوات قصد كنيسة و اعتنق المسيحية .
ــــــــــــــــــــــــــ
دخل مردخاي فعنونو تاريخ إسرائيل من الإتجاه المعاكس . المغربي الذي هاجر صغيرا مع أسرته إلى أرض الميعاد كما ذكر والده ، قادته الصدفة ليعمل في المشروع النووي الإسرائيلي . و فضح أمام العالم أسرار قنبلة إسرائيل النووية ،إلا أن الموساد كان لها دور آخر .
في أحد أيام سنة 1986 بأستراليا ، التقى مردخاي فعنونو التقني في المجال النووي بإسرائيل ، أوسكار جيرار الصحافي الذي يقضي عطلته السياحية بأستراليا . بعد حوار قصير بين الطرفين ، سيخبر فعنونو الصحافي الكولومبي بأنه سيمنحه الفرصة لكي يصبح صحافيا مشهورا . آنذاك ضحك الصحافي الكولومبي بطريقة توحي بأنه لم يأخذ كلام محدثه محمل الجد . لكن فعنونو ، ذا الأصل المغربي ، سيكشف لأوسكار جيرار بأنه يملك شريطين مصورين لمفاعل ديمونة النووي ، لكونه اشتغل كفني بالمفاعل النووي الإسرائيلي لمدة تسع سنوات ، قبل أن يتم فصله .
خــــيوط الفـــــضيحة :
في البداية ، عرض الصحافي الكولومبي على فعنونو أن يبيع التسجيلين المصورين إلى قنوات تلفزية و يحصل مقابل ذلك على أموال طائلة . لكن فعنونو رفض العرض و خاطب محاوره بالقول ، ( ما يهمني هو أن يعرف العالم كله الخطر الذي تشكله إسرائيل على العالم و على منطقة الشرق الأوسط تحديدا ، إنهم يخدعون العالم كله بالحديث عن كونهم مضطهدين ، و أن العرب يريدون الفتك بهم ، بينما لديهم ما يزيد على مائة قنبلة نووية و مفاعل قوته 150 ميكاوات ينتج كل أنواع القنابل الحرارية و الهيدروجينية و النيترونية ، و هذا المفاعل به 2700 عامل ، و كنت أنا ضمن 150 عاملا الذين كان مسموحا لهم بدخول كل أقسام هذا المجمع النووي ) . آنذاك رد عليه الصحفي أوسكار جيرار بالقول ( إذا كانت معلوماتك هذه صادقة فسوف تنقلب الدنيا رأسا على عقب إذا هي نشرت ) . صدق حدس الصحافي و عاش العالم تفاصيل فضيحة نووية بعد أن نشرت جديرة " صنداي تايمز" البريطانية ملفا كاملا عن مفاعل ديمونة النووي الإسرائيلي . لم يكن الوصول إلى جريدة " الصنداي تايمز" البريطانية ذائعة الصيت بالأمر السهل .
الصحافي الكولومبي أوسكار جيرار اتصل بماكينت روبرت ميردوخ ، مالك الجردية المشهورة و أطلعه على الأمر . هذا الأخير أرسل بيتر هونام المحرر بالجريدة إلى سيدني للقاء فعنونو و الصحافي الكولومبي . حيث سيطلب منهما الإنتقال إلى لندن و تزويدهم بالشريطين و باقي التفاصيل من أجل نشرها ، مقابل 75 ألف دولار أمريكي . العرض كان مغريا للغاية ، و سيقرر الثلاثة ، فعنونو و صديقه الصحافي الكولومبي و المحرر الإنجليزي ، السفر إلى لندن في اليوم الموالي . المخابرات الأسترالية علمت بتفاصيل ما دار في هذا اللقاء الثلاثي ، و في اليوم الذي غادر فيه الثلاثة مدينة سيدني ، كانت المخابرات الأسترالية قد بلغت الموساد بالقصة كاملة ، و أبلغتهم كذلك أن الثلاثة الآن في طريقهم إلى لندن ، كما أبلغت المخابرات البريطانية بوصول فعنونو إلى أراضيها ، و في صباح 5 أكتوبر من عام 1986 ، فوجىء قراء الصنداي تايمز اللندنية بمقال طويل بعنوان " أسرار الترسانة النووية الإسرائيلية " ، و ضم الموضوع معلومات لم يكن العالم كله يعرفها بهذه الدقة و الوضوح عن القدرة النووية لإسرائيل . و في التفاصيل عرضت الجريدة الموضوع قبل أن تنشره على خبراء نوويين لكي تتأكد من دقة المعلومات الخطيرة التي قدمها مردخاي فعنونو للجريدة . و قد دهش الخبراء النوويون من الأدلة التي قدمها المغربي فعنونو ، و التي أكد فيها أن إسرائيل لا تملك القنبلة الذرية فقط ، ( كان العالم حينها يشك في امتلاك إسرائيل لهذه القنبلة فقط ) ، و لكن ما قاله فعنونو يؤكد أن إسرائيل أصبحت القوة النووية السادسة في العالم . و جاء في المقال الصحافي كذلك أن مفاعل ديمونة أنتج حتى عام 1986 ما بين 100 و 200 سلاح نووي ، بقوى تدميرية مختلفة . لكن أخطر ما ورد في المعلومات التي أدلى بها فعنونو لأشهر جريدة في بريطانيا ، هو استخلاص البلوتونيوم لفترة طويلة و بشكل سري في مكان مجهول تحت الأرض ، بعيدا عن أية رقابة ، بما فيها رقابة الأقمار الصناعية المتقدمة أو حتى تلك التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية في التجسس على سكان الأرض .
الطريق إلى السجن :
أصبحت القصة على كل لسان ، لكن الصحافيين البريطانيين تساءلوا بعد كشف أسرار الترسانة النووية العبرية عن السبب وراء فضح السر النووي الإسرائيلي في ذلك الوقت تحديدا و فسر البعض ذلك بأن إسرائيل قد عمدت إلى كشف هذه القصة عن المفاعل النووي بعد أن أدرك العسكريون الإسرائيليون الخطر الذي يواجههم بعد وصول صواريخ SS - 21 السوفياتية الدقيقة إلى سوريا ، و أن هذه الأخيرة يمكن أن تزود هذه الصواريخ برؤوس كيماوية ، و أنها نتيجة هذا الخوف أرادت أن تخيف سوريا بنشر هذه القصة عن مفاعلها النووي لترتدع سوريا و بقية البلاد العربية المجاورة لها .
مباشرة بعد نشر الصنداي تايمز لهذا المقال ، سيختفي فعنونو من لندن و تنقطع أخباره ، لكن شقيقه هدد برفع دعوى قضائية إلى المحمكة العليا إن لم تكشف الحكومة الإسرائيلية النقاب عن سر اختفاء شقيقه ، فأعلنت الحكومة الإسرائيلية بعد 40 يوما من اختفاءه أنه موجود في إسرائيل و أنه رهن المحاكمة ، و اكتشف مردخاي فعنونو و هو في إيطاليا أن ساندي ، الفتاة التي التقاها بأحد المقاهي اللندنية و عرضت عليه السفر صحبتها إلى روما ، لم تكن في الواقع سوى عميلة للموساد ، حيث ما إن دخل الشقة معها في روما حتى فوجىء بثلاثة أشخاص يقيدونه ، ثم قامت ساندي بحقنه حقنة مخدرة و وضع في صندوق و نقل بطائرة صغيرة إلى ميناء بحري ، حيث نقل بحرا إلى إسرائيل ، و ظل في البحر أسبوعا قبل أن يصل إلى إسرائيل ، حيث ألقي به بزنزانة مظلمة ليس بها إلا فراش ملقى على الأرض . و أثناء مثوله أمام المحمكة ، حوكم فعنونو على أساس ثلاث تهم : الخيانة و التجسس الخطر و جمع معلومات سرية بقصد إضعاف أمن الدولة . و عقدت المحاكمة بشكل سري في محكمة بالقدس ، حيث غطيت كل نوافذها بلون قاتم . و خلال نقله من السجن إلى المحكمة ، كان الجنود يلبسونه خوذة كخوذات قائدي الدراجات البخارية حتى لا يسمع أسئلة الصحافيين و لا يستطيع الكلام ، و لكنه مع ذلك استطاع ، أثناء عودته من إحدى جلسات المحاكمة إلى السجن ، أن يكتب تفاصيل ما حدث له على راحة يده و ذراعه و يضع كف يده و ذراعه على نافذة السيارة ، حيث عرف العالم كله أنه خطف من روما بواسطة الموساد . و في مارس 1988 ، حكم على مردخاي فعنونو بالسجن 18 ستة ، بعد أن اعتبرته المحكمة خائنا ، ليطلق سراحه يوم الأربعاء 21 أبريل من سنة 2004 . و في سنة 1999 ، نشرت صحيفة " يدعوت أحرونوت " الإسرائيلية ، لأول مرة ، مقتطفات من سجلات عمرها ثلاثة عشر عاما من محاكمة مردخاي فعنونو ، فاضح أسرار البرنامج النووي الإسرائيلي ، و حسب السجلات التي يصل عدد صفحاتها إلى ألف و مائتي صفحة ، قال فعنونو للمحكمة إنه أراد التأكيد على حقيقة كانت معروفة لدى الجميع ، و هي امتلاك إسرائيل لأسلحة نووية ، و أن هدفه هو الضغط على إسرائيل من أجل إخضاع برنامجها النووي للرقابة الدولية . و قد سمح بنشر تفاصيل المحاكمة بناء على طلب تقدمت به الصحيفة قبل أربعة أشهر و موافقة المدعي العام . و خصصت " يدعوت أحرونوت " نصف صفحاتها الأولى و تسع صفحات داخلية لمقتطفات من سجلات المحاكمة ، و قد انتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز ، الذي يعتبر مهندس البرنامج النووي الإسرائيلي ، قرار السماح بنشر مقتطفات المحاكمة ، و قال إن كل دولة لها حق الإحتفاظ بأسرارها في بعض المجالات .
عن مجــلة نيشــان المغربية
شارك بتعليقك