قصــة قصيـرة هدية لموقع بيت سيرا- بلدي التي نشأت بها وتربيت
قصة قصيرة
بيت سيرا حصدوا محصولهم
نازك ضمرة
"بيت سيرا" قرية صغيرة وادعة لا تظهر على خريطة فلسطين عادة، ولا يكاد يذكرها أو يعرف عن عراقتها في التاريخ أحد، فهي تقوم على تراث كثيف من الآثار، وكنوز لم يحاول أي بشر أن يكشفها من قبل، لا يتجاوز عدد سكانها ألف نسمة من رجال ونساء وأطفال، بنات وأولاد، وربما كان بها ما يقارب نفس هذا العدد من الحيوانات.
سامي ألمح أكثر من مرة لأصدقائه من أولاد القرية، ولنفر قليل من بناتها أنه يحب الحيوانات، وبسبب مرض التهاب المفاصل الذي أقعد والده مبكراً، وبسبب طفولته وارتداء والدته النقاب، لم يكن ممكناً لأسرة سامي اقتناء بعض الحيوانات كغيرهم من عائلات القرية.
تقع قرية بيت سيرا على الخط الفاصل بين سهول فلسطين الساحلية وبين موطئ أقدام جبال القدس، سهلها الغربي لزراعة الحبوب يقتات أهل القرية عليها، وبيوتها الضاربة في أعماق التاريخ عند أصابع أقدام جبال القدس، أما أشجارها فتزين الجبال الوعرة شرقي القرية، يتنعمون بعيش هادئ صيفاً على ثمار التين والصبار والعنب، ويخزنون ثمار الزيتون مملحاً أو يعصرونه بطرق بدائية يدوية للحصول على حاجتهم من الزيت لشهور الشتاء الباردة، يسهرون ويمرحون وتحمرّ بشرة وجوه معظم أهالي القرية صيفاً، ويقبعون في بيوتهم احتماء من البرد شتاء، أو يتزاورون ويشربون الشاي القليل أو القهوة يطبخونه على نار الحطب من تقليم أشجارهم، أو يتجمعون للسمر وللاحتفاء بضيف أو غريب يزور القرية في مضيف، وقد يحضر شاعر شعبي مع ربابته ليروي لهم قصصاً من ألف ليلة وليلة، أو سيرة الزير سالم أو حرب البسوس.
سامي لا يختلف عن أولاد القرية، إلا أنه ولد هادئ كتوم مسالم، مع أنه يلعب ويعبث ويحب ويكره، يغيظ، وينافس، يتفوق ويتأخر، كل ذلك بهدوء، ويحرص على أن لا يظهر عليه أي صفة من تطرف أو تفوق أو جهل أو فتور أو خور. وبالاختصار كان حريصا على الحياة وربما أقرب إلى الجبن منه إلى الشجاعة. لا تلومه لو سمعتم وجهة نظره، سألناه مرة لماذا تحمل خنجراً صغيراً مخفياً دائماً عن أعين الأولاد والرجال؟
- والدي كبير في السن ومقعد، ولا يستطيع أن يمنع عني اعتداءات الأطفال الأقوياء، ولا يقوى حتى على الحركة ليؤمن لي بعض الدعم.
تمدد الاحتلال الصهيوني وأوشك على ابتلاع "بيت سيرا" حاول الغزاة تهجير أهلها ليصبحوا رقماً صغيراً إضافياً لمليون لاجئ هجروا من مدنهم وقراهم عام 1948، لكن وبرغم قلة عدد رجال "بيت سيرا" ونسائها القادرين على حمل السلاح إلا أنهم صمدوا في مواجهة الترويع من جيران المضايقات، احتملوا الجوع والعري والأمراض وشح المياه، هزلت أجسادهم، وذابت شحومهم، وشحبت وجوههم، وطوت خصور الأمهات والصبايا في قريتهم، معظمهن أصبحن كأعجاز نخل باسقة في شوارع القرية الضيقة وأزقتها، يسرين كفزاعات تحركها الجن والسحرة في أزقة ضيقة متعرجة، ملآى بالتراب والخرافات والأطلال، ويفئن إلى أشجار الزيتون العتيقة الرومية للراحة أحياناً.
تصارع أهل قرية بيت سيرا مع الغزاة على الشريط السهلي الذي ورثوه عن أجدادهم، تملكوه رسمياً بصك جمعي حكومي، خدموا أرضهم وفلحوها على مدى الأيام والسنين، يدفعون عنها ضريبة سنوية لحكومة الانتداب، اعتنوا بتلك الموارس العزيزة من الأرض، اعتزوا بها وأعزوها، تشبثوا بتلك الشرائط من الأرض السهلية الخصبة، واعتاشوا على الحبوب التي تنتجها كل عام، كالقمح والذرة والشعير والقثاء وبعض الخضار والبقوليات،
سيخرج الناس بعد الفجر وعلى الندى يبدأون بقطف حقولهم،وقبل حضور دوريات العدو لمرصد "راس أبو عصفور".
عمل سامي لأول مرة في حياته مع أفراد العالة لتي استزرعت أرض والده مخامسة، خمسان لهم وثلاثة أخماس للمستزرع، قطفوا ما يقارب ثلثي مارس الأرض، كانت وداد تحمل سلة القش قرب سامي، وكلما قطع ما يقارب عشرة أكواز من الذرة، أسرعت بنقلها إلى الأكياس الكبيرة عند طرف المارس الشرقي.
بدأ أهل "بيت سيرا" بقطف الجزء الغربي من موارسهم مبكرين، مبتعدين عن مرمى رصاص الغزاة، مسرعين قبل ارتفاع قرص الشمس، وقبل وصول دورية المستقوين بأسلحتهم بدعم الأوربيين الأقوياء لهم. قال سامي لوداد في طفولة بريئة
- ألا ترين؟ لا ينفعنا إلا اتفاقنا ومشاركاتنا وسرعتنا في الإنجاز!
- ألم أساعدك؟، وشاركت معك عائلة "أبو فؤاد" في القطف؟ ليت والدي يقوى على شراء بندقية حتى أتعلم عليها وأحميك يا سامي وأنت تقطف الذرة أو سنابل القمح من أرضنا القليلة العزيزة الباقية.
طلقات نار من رشاشات تنطلق صوب المرج من المرصد الغربي المرتفع قليلاً، والكاشف لكل ما يجري من حركة في المرج أسفل منه، صاح الشيخ صالح، " انطرحوا أرضاً"، نظر سامي من بين أعواد الذرة التي تصرّ على الصمود برغم قطع رؤوسها، ثم مدّ بصره على سطح الأرض أمامه وخلفه وحوله، فلم ير إنساناً واقفاً، وفجأة صدر نداء ملهوف يستغيث
- جملي! جملي!، بعيري، بعيري! أصيب جملي يا ناس، هل من يحمل سكينا؟ نريد ذبحه حتى لا يصبح فطيساً، فأجابه الحاج ذياب
سنأكله حلالاً زلالاً حتى لو لم نذبحه، مرت أسابيع لم نذق فيها طعم اللحم، وشاء ربك أن نطعم لحماً هذا اليوم وفي الغد. سنعتبره كالصيد ونذكر اسم الله عليه، فصاح أبو عوض المعروف بهزله وطيشه،
- أتعني أنه استشهد، وأضيف إلى قائمة الموتى ممن قاوموا الغزو؟ وعلا صوت واحد من كبار السن من العاملين في الحصاد
- اطمئن لن تأكله الضباع ولا الثعالب ولا الذئاب ولا الذباب، ولن ندفنه إلا في بطوننا وعقولنا.
كانت خطة أهل قرية بيت سيرا جاهزة، توجه خمسة من شباب من شمال المرج، وخمسة آخرون من جنوبه، تقدموا غرباً وبعيداً عن مرصد العدو المرتفع، حتى وصلوا بمحاذاة دورية العدو وعلى نفس خط الطول تقريباً، وبدأوا يشاغلون الغزاة حتى يتمكن أهل القرية بقطف مزروعاتهم في أراضيهم، يطلقون رصاصات متفرقة من بنادق عثمانية قديمة، حفظها بعض من أهل القرية وأخفوها عن مفتشي عساكر الإنجليز الذين اعتادوا على الحضور للتفتيش عن السلاح في القرية، كلما وردت لهم أنباء عن وجود بعض البنادق في متناول بعض الناس في القرية. كان الواشون من غير أهل القرية، ومع تواجد عائلات وحمائل مختلفة في القرية إلا أن التعامل مع الإنجليز أو التعاون معهم كان خطاً أحمر قاتل، يتناوشون ويختلفون، لكن لا يفكر أي نفر منهم أن يعمل ضد قريته بيت سيرا، ولا أن يقبل التجاوب مع جيش الاحتلال البريطاني ضدّ أي فرد من القرية. قال سامي للبنت الشابة التي تهواه حين قالت
- لو كان لدى والدي بندقية لسبقته لها، وتقدمت أحمي أهلي من الموت.
- لا أريدك أن تحملي بندقية يا وداد، يكفي أن تكوني قادرة على حمل ما أستطيع قطافه من عرانيس الذرة، لتوصيله للبيدر، وأن تعودي سالمة كي نركب جذع شجرة التين في بستانكم الصغير. تبتسم وداد، وتنفرج أسارير وجهها تحت وابل الرصاص الذي ينطلق حولهم من الغرب. قال سامي لوالدته
- أرجو أن تشكري والدة وداد يا أمي لأنها خاطرت بحياتها، وكلانا ساعدنا عائلة "أبو فؤاد” في قطف ثمار الذرة من مارسنا أسفل مرصد الأعداء في نقطة "أبوعصفور" على التل الغربي المشرف على المرج.
اعتز والد سامي يومها بابنه، وشرب الشاي معه بحضور بعض من رجالات القرية، لأن أهل قرية بيت سيرا أفلحوا في قطف جميع ثمار الذرة من أراضيهم صيف ذلك العام.
شارك بتعليقك
ما دام عرفت أني من بلدك، ابن بيت سيرا، وأنا رجل عجوز أي كبير في السن وعمري 72 سنة، ومادام بتحب بلدك وأهل بلدك، فلماذا لم تسأل ختيارية البلد عن نازك ابن الشيخ خالد مسعود ضمرة؟ ثم ما دام إنك من دار حمدان، ليش ما تسأل أبوك، أذكر أنني علمت ولدين من أولاد أبو سلمة، ولماذا لا تسأل محمد خليل أبن المرحوم المختار خليل حسن حمدان، واسأل أخاه جعفر، فقد علمتهما خمس سنوات في مدرسة بيت سيرا وسنة واحدة في مدرسة الاتحاد، هل يكفيك تعريف بي؟ هل تعرف البيت القديم الذي بجانب الشيخ حسنات إنه بيتنا، وهو البيت الذي ولدت فيه وتربيت وترعرعت في شوارع وسهول وجبال بيت سيرا، وبيتنا القديم الذي ما زال يقاوم تقلبات الزمن والخراب، يقع بين دار نمر ذيبب وبين دار الأمير التي بنوها على أرضنا ومحل بيوتنا دار الشيخ لأن القرية وأهلها لم يقفوا ليقولوا الحق ويمنعوا المعتدين من الاعتداء على أملاك الغائبين ، علماًبأنني أقيم في أمريكا مع اولادي الذكور السبعة وبناتي الستة، وقد تزوجت بامرأة ثانية من أهل بيت سيرا من دار خطاب بنت هدى محمد خطاب وعمها هو محمود الطشلي رحمه الله وابن عمها حسن محمود خطاب الذي بيته قرب بيت موسى عيسى وقرب مدرسة البنات، تحياتي لك ورعاك الله وآمل أن تكتب لي على عنواني الإيميل وهو كما يلي
[email protected]
وفي الختام لك تحياتي المخلص نازك ضمرة
انا منير ابن علي محمد حمدان
انا حبيتك من حبك لبلدك والله