حذاء طفلة و سفر المزامير
مذكرات يعقوب بيري - ضابط مخابرات اسرائيلي لمدة 29 عام
من كتاب القادم لقتلك
في الأول من كانون الأول 1969 عيّنني يهودا أربيل مركزاً لمنطقتي طولكرم و جنين ، و بعد بضعة شهور انتقلت مع عائلتي إلى كيبوتس عين حارود الذي يقع قريباً من مكان عملي الجديد .
عملت يعيل معلّمة أجيرة في الكيبوتس و أنا عزفت في البوق في مناسبات الّعياد . تم استيعاب أمير ابني البكر في تجمّع الأطفال و ابني الصغير عيدي الذي ولد في نيسان 1971 تحوّل بسرعة إلى محبوب أعضاء الكيبوتس . كان طفلاً فاتناً منحته ابتسامته الدائمة تقريباً اسم التحبّب "زيدح" – مشرق .
و في هذه الأثناء كنت قد عيّنت مسؤولاً عن ثمانية مركزي "شباك" أربعة في كلّ منطقة و امتدت منطقة عملنا على مساحة واسعة من السامرة . و بعد مخاضِ الانتظام في المناطق أصبح "الشاباك" ماكينة مشحمة جيداً .
بعد وقتٍ غير طويلٍ من تسلّمي المنصب أجرت خلية (مخرّبين) محاولة لإطلاق قذائف كاتيوشا من كفر عبوش قرب طولكرم إلى مطار اللد (مع الوقت أصبح مطار بن غوريون) ، و قد أخطأوا بميلليمترات معدودة في إعداد القواذف فأصابت القذائف مدرسة و مستشفى تأهيل في بيتاح تكفاه .
قمنا فوراً بإجراء حسابات مدى و عثرنا على المنطقة التي أطلقت منها قذائف الكاتيوشا و كانت منطقة صعبة مليئة بالشقوق و المخابىء . صعدت إلى مروحية و بدأنا بالبحث عن أعقاب فاكتشفنا القواذف و بسرعة كشفنا أيضاً (المخرّبين) الذين كانوا في طريقهم إلى نهر الأردن ، و عندما شاهدونا أسرعوا باتجاه السياج الحدودي و وقعوا في حقلِ ألغامٍ فقتل اثنان و جرح اثنان . قمنا بإنزال المروحية و استدعينا قوة عسكرية اعتقلتهما .
كان ميخا مركز "الشاباك" في قلقيلية و هو من "موشاف" – مستوطنة زراعية – في وسط البلاد . رجلٌ وسيم و مزارع بكلّ معنى الكلمة و صهيوني بحت ، ساعد في صغره رجال التنظيم السري "ليحي" في معالجة المواد الناسفة و بعد حرب الأيام الستة تطوّع "للشاباك" و كان أحد المركزين البارزين . تحدّث العربية بطلاقة بلهجة بدوية ، و نجح في الالتحام جيداً بالسكان العرب .
دعاه القرويون "ميخو" أو "أبو علي" و عرفه جزء منهم منذ طفولته و تذكّر الكبار منهم أنه كان يتراكض مع والده الناطور في البحث عن سارقي الجياد ، و قد تعاملوا معه باحترام كما أننا كنا نكن له تقديراً كبيراً .
ساعدت ميخا علاقاته و لغته العربية و قدرته على أن يصبح محبوباً لدى الناس ، على جلب الكثير من المعلومات و تجنيد عملاء ممتازين زوّدونا بمواد ذات قيمة كبيرة و حلّ ألغاز عمليات كثيرة .
ذات يوم أبلغنا أحد العملاء عن خليّة (مخرّبين) تخطّط لعملية كبيرة في وسط كفار سابا ، عثرنا على أعضاء الخلية و اعتقلناهم و لكننا لم نجد المادة المتفجّرة . و لأننا نجحنا في تلك الفترة في كشف و تصفية مخازن كبيرة جداً من الوسائل القتالية و منع جزءٍ ملحوظ من عمليات التهريب إلى البلاد ساد نقص شديد في هذا المجال و كلّ كمية من المواد المتفجّرة كانت عظيمة القيمة بالنسبة لـ (المخرّبين) . و لهذا كان من المهم جداً العثور على العبوة الكبيرة للخلية التي تم تأمينها لهم من إحدى بيّارات قلقيلية . "الإيداع" تعني في اللهجة الاستخبارية (إخفاء أيّ شيء – سواء أكان رسالة أو وسيلة قتالية – في مخبأ يتعذّر أن يصل إليه أولئك الذين تم تخصيص الإرسالية لهم . و قد استهدف الإيداع منع الصلة بين من يدفن المادة و بين من يلتقطها من هناك لضمان أكبر قدرٍ من التغطية .
كان (المخرّبون) الذين اعتقلوا قرويين و خلال التحقيق معهم ادعوا أنهم أبلغوا أن المادة المتفجّرة دفنت في بيّارة كبيرة في صفوف أشجار معيّنة ، و لم نفهم ما قصدوه بالضبط . لم نرغب في تدمير البيّارة بالجرافات و اقتلاعها بأكملها للعثور على المخزن السريّ . و في تلك المرحلة أخذ ميخا على عاتقه معالجة القضية فتحدّث مع (المخرّبين) بلغتهم ، كمزارعٍ مع مزارعين و فهم كلّ العلامات التي ذكروها – موعد زراعة الأشجار التي أودعت قربها الشحنة و كيفية ريعها و ما شابه – و في نهاية المطاف نجح في إحضارنا إلى المكان الصحيح . حفرنا في الأرض و أخرجنا من هناك كميات ضخمة من المتفجّرات.
رجل ميدانيّ آخر هو يعقوب كوهين الذي عرفه الجميع بكنيته "يعقوبا" و كان نموذجاً مميزاً أيضاً ، عضو كيبوتس و من رجال وحدة المستعربين في "البلماخ" ، قرّر في سن الأربعينات أن يضع مؤهّلاته تحت تصرّف "الشاباك" ، و خلال وقتٍ قصير اشتهر كمحقّق لا يكلّ . كان أسمر شعره رمادي ، له شارب مهذّب و تحدّث العربية بطلاقة . و رغم أنه كان الأكبر في المجموعة إلا أن سنّه لم يقف عائقاً في عمله الصعب ، كما لم يمنعه عمره من التطوّع إلى إحدى المهمات الأخطر في تلك الفترة .
بدأ ذلك بنبأ عن خلية تسلّلت إلى المنطقة من أجل تجنيد مزيد من (المخرّبين) و لتنفيذ عمليات في (إسرائيل) ، و لم تكن المعلومات التي نقلت إلينا كثيرة . عرفنا فقط أن الخليّة تمتلك الكثير من الأسلحة و المتفجّرات و في الليل تغير على هذه القرية أو تلك للتزوّد بالغذاء و الماء و الأدوية .
شغّلنا كلّ شبكة مصادر معلوماتنا من أجل الحصول على تفاصيل أكثر دقة و لكننا لم نصب كثير نجاح ، فالوقت عمل في غير صالحنا و لم يكن لدينا شكٌ بأن (المخرّبين) في ذروة الاستعداد لجولة عمليات و أي تأخير في إلقاء القبض عليهم قد يكون حاسماً .
جلسنا ساعات طويلة و استعرضنا إمكانيات مختلفة للعمل و في نهاية المطاف وصلنا إلى نتيجة أننا سننجح في إيجاد اتصال مع الخلية فقط إذا عملنا في الميدان ، و كان واضحاً لنا أن قوة عسكرية عادية لن تستطيع تنفيذ المهمة لأنها ستكتشف فوراً .
فكّرنا ، على أية حال ، حول طريقة أخرى لم تجرّب من قبل حسب معرفتنا ، و كانت الفكرة تشكيل خلية (مخرّبين) وهمية تتحرّك أيضاً في نفس المنطقة على أمل أن تنجح في إيجاد اتصال مع الخليّة المطلوبة ، عرفنا أن ذلك لعب بالنار ، و لهذا كنا بحاجة إلى أشخاص مجرّبين ذوي كفاءة و جرأة يقف على رأسهم قائد لا يوجد لديه مكان للرهبة .
تطوّع يعقوبا دون أن يفكّر مرتين ، و للحقيقة فقد تردّدنا كثيراً قبل أن نستجيب له و قد كنّا جميعاً تقريباً أصغر منه بسنوات كثيرة و خشينا أن نأخذ على عاتقنا المسؤولية عن ذلك ، و لكن يعقوبا قال ببساطة : "أنا الشخص الملائم أكثر للمهمة و هذا يجب أن يكون اعتباركم الوحيد" .
و بعد نقاشٍ استسلمنا له ، و قد تردّدت بشدة في مسألة من هم الذين سيكونون أعضاء الخلية الوهمية مع يعقوبا . فقد عرفنا أن عليهم أن يكونوا ذوي قدرات مميزة : مقاتلون ممتازون ، مؤهّلون ليس فقط للتنكر كـ
(مخرّبين) و إنما أيضاً للتصرف على الأرض مثلهم للتغلّب على الشكوك الطبيعية للقرويين .
قرّرنا أن نختار لهذه المهمة المعقدة فقط الأفضل ، مقاتلي دورية الأركان . كان مناحيم ديجلي حينئذٍ قائد الدورية و قد جاء إلينا و اتفقنا سوياً على تفاصيل العملية . و بمشورة يعقوبا تم اختيار ثلاثة مقاتلين من الدورية ذوي ملامح شرقيّة كاملة ، يجيدون اللغة العربية و يعرِفون عادات القرويين و زوّدناهم بملابس تميز (المخرّبين) و بكلاشينكوفات و كميات كبيرة من الذخائر . و تمّ إخفاء أجهزة اتصال صغيرة جداً على أجسامهم كان يفترض استخدامها في اللحظات الحرجة فقط .
أعطيناهم أغذية مقبولة لدى (المخرّبين) – معلبات من أنواع معيّنة و جبناً عربيّاً محلياً ، و حتى أرغفة الخبز كانت مطابقة لتلك التي تخبز في المنطقة ، و إضافة لذلك حصلت على أوعية ماء شبيهة بتلك التي يستخدمها (المخرّبون) .
أرشدنا "مخرّبينا" بحرص كبيرٍ و كان التوجيه الذي تلقّوه منا أن يختفوا خلال النهار و أن يصلوا في الليالي إلى قرى مختلفة قارعين الأبواب . و بدت قصة التغطية التي بنيناها لهم مقنعة بما يكفي فقد كان عليهم عند الحاجة أن يقولوا بأن خليّتهم أرسلت إلى المنطقة من أجل الاندماج مع خليّة (مخرّبين) أخرى موجودة في المكان و لكنهم لم ينجحوا حتى الآن في العثور عليها . قرّرنا أن نأخذ على عاتقنا هذه المجازفة بافتراض أن ذلك سيصعب على القرويين التحقّق فوراً من قصة الخليّة الوهمية وه كذا يتوفّر لأفرادها هامش عمل معقول .
اتفقنا مع يعقوبا بأن يمتنعوا ، على غرار الخلية المطلوبة ، عن الدخول إلى مراكز القرى و أن يتردّدوا فقط على البيوت عند الأطراف . و حدّدنا أيضاً بأن يقوموا كلّ ليلتين بالعودة إلى المنازل التي زاروها على أمل أن يكون أحد القرويين قد اتصل في تلك الأثناء بالخلية الحقيقية و روى لأفرادها عن الخلية "الجديدة" و تلقّى أوامر ملائمة .
و نظراً لأننا لم نستطع تزويد رجالنا بالخرائط فقد حفظوا عن ظهر قلب معالم المنطقة إلى مستوى الخبرة الذي مكّنهم من معرفة المكان الدقيق لكلّ موقع و كلّ بئرٍ و كلّ قبر شيخ . و بعد أن استكملت الاستعدادات انطلقوا إلى منطقة عمليتهم و بدأوا في الساعات المتأخّرة من الليل في الدقّ مراراً على أبواب المنازل ، و قد استقبلوهم في كلّ مكانٍ بوجوه بشوشة و كانت طلباتهم للحصول على ماءٍ و غذاء تستجاب عن طيب خاطر كما أن مضيفيهم كانوا يشاركونهم الأسف لأنهم لم ينجحوا في خلق اتصال مع "زملائهم" و لكنهم لم ينجحوا في أن ينتزعوا من القرويين أي معلومة صغيرة حول تحرّكات الخلية الحقيقية . كشف يعقوبا عن مؤهّلات قائد ممتاز و كان لديه خبرة هائلة و معرفة جيدة جداً للمنطقة ، و للمزاج العربي – الريفي .
مبدئياً ، حرصت دائماً على عدم التدخل في عمل القادة بالميدان و عندما كنت أنضمّ إلى عمليّة كنت دائماً أحافظ على بعد ما فأختار لنفسي موقعاً يمكن منه مراقبة ما يجري . قائد العملية هو الشخص الذي يلقى عليه كاهل المسؤولية في تنفيذ المهمة و إعادة رجاله بسلام إلى بيوتهم و آخر شيء في العالم يحتاجه في هذه الظروف هو نفخة في مؤخّرته .
تمركزت مع طاقمي على جبل جرزيم في موقع مراقبة متطوّر و مزوّد بأجهزة اتصال حساسة خصّصت لاستقبال أي بلاغ عن الخلية ، و قد استعددنا لمكوثٍ طويل هناك .
بعد انقضاء الليلة الثانية دون نتيجةٍ ساد في الجهاز جوّ من التوتر و لم يكن لدى يهودا أربيل ، قائدي ، أي شك في أنني أجازف بالرجال عبثاً و قد تردّد صدى صرخاته باللكنة الهنغارية الثقيلة بلا توقّف في شبكة الاتصال . وبّخني قائلاً : "أنت مع أفكارك الحمقاء .. من أجل ماذا نحتاج هذا أصلاً ؟" و قد جهدت بمشقّة حتى نجحت في إقناعه بأن يمنحنا مهلة ليلتين أو ثلاث أخرى .
جرت الاتصالات مع خليّتنا في ساعات الليل المتأخّرة في نقطة معيّنة على شارعٍ مجاور حيث كنا نصل إلى هناك في سيارة عربية و كانوا هم ينقضّون من الميدان و يبلغوننا .
لم يكن هناك الكثير لإبلاغه و لكنّنا تحلّينا بالصبر جميعاً ، و قام الشبان بعملٍ رائع في الميدان ، بذروا البذور و أملنا جميعاً بألا يطول الوقت حتى تحصد الغلال . لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة لهم فقد تطلّب منهم لياقة جسمانية عالية و التمسك بالمهمة و قدرة على إخماد الخوف و التكيّف مع الظروف القاسية . و كان مزعجاً جداً المكوث في المنطقة بدون إمكانية الاستحمام و الحفاظ على حدّ أدنى من النظافة .
و كلّ مرة كانوا يستغرِقون في النوم عدة ساعات في الميدان متخفّين داخل أجمة من النباتات الشائكة و أكلوا بسرعة و في الليلة الثالثة كانوا متّسخين و منتنين إلى درجة أن من الصعب الوقوف بجانبهم .
و في الليلة الرابعة خلال زيارة مجدّداً لعائلة قروية خلق الاتصال أخيراً و رغم كلّ المخاوف أثبتت الطريقة نفسها و قال صاحب البيت الذي توجّهوا إليه إنه عثر على الخلية المطلوبة و روى لأفرادها عن الخليّة الجديدة ، و بشّر بـ "أنهم يريدون مقابلتكم غداً الساعة الثالثة بعد الظهر" ، و حتى أنه أشار إلى مكان اللقاء – بستان ناءٍ في المنطقة . كما أبلغ يعقوبا بشيفرة تلقّاها من قائد (المخرّبين) .
تحت جنح الظلام أرسلنا وحدة مختارة إلى المنطقة من أجل إلقاء القبض على (المخرّبين) عندما يحدث الاتصال و لإنقاذ رجالنا في حالة وقوع خلل غير متوقّع . حفر الجنود حفراً عميقة و قبل أن يبزغ الفجر اتخذوا مواقعهم خلف الصخور .
كان التمويه ناجحاً جداً إلى درجة أن القرويين الذين خرجوا صباحاً لفلاحة الأرض لم يلاحظوا الكمين إطلاقاً . وضعنا طائرة مروحيّة على أهبة الاستعداد و كنا نقرِض أظافِرنا من شدة التوتر .
لم نرَ شيئاً من موقِعنا البعيد عدة كيلومترات من هناك و لكن يعقوبا شغّل جهاز اتصاله و أبلغ أنه يرى (المخرّبين) يقتربون . كانوا أربعة و مشوا بعيدين عن بعضهم البعض بصورة ملحوظة و بعد دقيقة أو اثنتين سمعنا يعقوبا يطلِق الشيفرة صارخاً و سمعنا العربيّ يردّ عليه ، و اقتربوا من بعضهم البعض .
سار يعقوبا في مقدّمة خليّته و سار (المخرّبون) خلف قائدهم و ركع جميعهم و أشعلوا سجائر و شرع يعقوبا و قائد (المخرّبين) بمحادثة تقليدية حول الأحوال ، تحدّث يعقوبا عن قصة التغطيّة التي تضمّنت تفاصيل – مختلفة طبعاً – عن قريته و والديه و أبناء عائلته العرب ، فيما تحدّث قائد (المخرّبين) عن نفسه . و بعد عشر دقائق تقريباً خاضوا في جوهر الموضوع فقال يعقوبا إنه أحضر معه أوامِر موجودة في جعبته أخفاها في مكانٍ قريب ، و أجاب (المخرّب) بشيء ما لم نستقبله بوضوحٍ في جهاز الاتصال و عندها و بدون سابق إنذار سمعت أصواتَ أعيرة نارية في جهاز الاتصال و وصلت إلى مسامعنا صدى قتالٍ إلى أن صمت جهاز الاتصال .
أمرت فوراً المروحية بالإقلاع و التوجّه إلى المكان و كان لديّ شعور سيء جداً . قفزت في سيارة جيب و انطلقت مسرِعاً إلى المنطقة . وجدت هناك أربعة (مخرّبين) ميتين و يعقوبا تنزِف الدماء من يده ، و قد روى لي أنه فجأة و دون أي سببٍ ظاهر للعيان نظر إليه قائد (المخرّبين) مشتبهاً و أعدّ مسدسه للإطلاق . و قد تمكّن العربي من إطلاق عيارٍ واحدٍ أصاب أصبع يعقوبا و عندها انقضّ الجنود من الكمين و قاموا بتصفية الخلية .
وصل يهودا أربيل إلى المكان بعدي فوراً و ألقى عليّ مسؤولية إصابة يعقوبا بجراحٍ و صرخ بانفعال . و قد وقفنا جميعاً مبتسمين هناك فيما أغرق يعقوبا بالضحك . هدأ أربيل بعد عدة دقائق و فهم أن هذه كانت في نهاية المطاف عمليّة ناجحة جداً حتى و إن كان من نتائجها إصابة أحد أصابع القائد . و بالمناسبة فقد ظلّ هذا الأصبع واقفاً دون أي قدرة على ثنيه .
كان يعقوبا جديراً بوسامٍ و لكن "الشاباك" لم يقدّم أبداً أوسمة أو أيّة شهادات امتياز ، و لو كان متّبعاً تقديم أوسمة تقدير لكان من العدل الكامل منحها لمئات من العاملين في الجهاز الذين أثبتوا أنفسهم في مهمات صعبة و معقّدة مراراً وسط المجازفة بحياتهم . و قد كان تعبير "الشاباك" عن التقدير دوماً أكثر تواضعاً .
تلقّى يعقوبا و أعضاء خليّته رسائل شخصية من رئيس الجهاز أشار فيها إلى مساهمتهم في تصفية خلية (مخرّبين) خطيرة ، و لم تكن هناك أي تعبيرات تقدير أخرى .
كان العمل في المناطق عندما عملت مركزاً هناك شاقاً و صاخباً ، فقد عرفنا أنه في كلّ زاوية شارع أو منعطف طريق ليل نهار قد يكمن لنا (مخرّبون) مسلحون.
أحبطت استخباراتنا آلاف العمليات من هذا النوع و لكن لا يمكن أبداً إحباطها جميعاً . و قد ساعدتني أحاسيسي الداخلية مراتٍ عديدة في الأوضاع التي لم يكن هناك معلومات مسبقة بشأنها . و هذا ما حدث في ليلة حالكة سافرت فيها برفقة مظليّين مسلحّين للالتقاء مع عميلٍ في مخيّم عين بيت الماء عند المخارج الغربية لنابلس . مررنا بزقاقٍ ضيّقٍ و فجأة لاحظت عدة شخوصٍ تتسلّل بين المنازل حاملة مصابيح . و لم يكن في هذا ما هو استثنائيّ و لكن شعوري الداخلي بثّ مؤشرات تحذيرٍ فتوقّفت فوراً و أرسلت المظليّين لتمشيط المنطقة و أنا نفسي خرجت من السيارة ، و في نفس اللحظة سمعت دقّة حيث ألقى شخص ما قنبلة أصابت غطاء محرّك السيارة و لحسن حظّي لم تنفجر .
و في مرة أخرى سافرت مع يهودا أربيل في قافلة من خمس سيارات لإلقاء القبض على مطلوبين من الخليل ، و في منتصف الطريق أبلغت أربيل باللاسلكي بأنني أشعر بأحاسيس غير طيبة بشأن هذا المشوار . كانت هذه وقاحة غير قليلة فقد كنت لا أزال مركزاً صغيراً دون أقدمية و ذا خبرة قليلة نسبياً فيما يعد أربيل من كبار مسؤولي الجهاز .
أوقف القافلة و خرج من سيارته و صرخ عليّ قائلاً بأنني مجنون و أنني أؤخّره بسبب هستيريا غير مفهومة ، رويت له بهدوءٍ عن أحاسيسي الداخلية و حثثته على أن يفحص إذا ما كان فيها ما هو حقيقيّ . فكّر أربيل لبرهة و أرسل الآليتين نصف المجنزرتين اللتين رافقتانا قدُماً لتمشيط المنطقة .
مرت عدة دقائق و فجأة سمعنا صوت انفجاراتٍ و فتحت نيران كثيفة على المجنزرتين من كمينٍ نصب في حرج على جانب الطريق ، و لم يصب أحد من رجالنا .
و مع مرور الوقت طوّرت نظريّة لنفسي مفادها أن الفرصة الأفضل لعدم الوقوع في كمينٍ هي تحديداً عند السفر في سيارة منفردة بدون حراسة . و السبب في ذلك كما تعلّمت بسيط : يفضّل (المخرّبون) عموماً أن يشخّصوا الهدف أولا و استيضاح ما إذا كان الحديث يدور عن هدفٍ عسكري أو مدنيّ ، و تسهل الأهداف الكبرى مثل قوافل السيارات مثل هذا التشخيص .
لهذا فضّلت قدر الإمكان السفر وحيداً في الظلام في الطرق النائية رغم أنني عرفت أنني أتجاوز بذلك إاجراءات الأمن المشددة "للشاباك" . و في حالتي على الأقل أثبتت "طريقة بيري" نفسها .
و إضافة إلى الأحاسيس الداخلية تزوّدت بوسائل أمنية لم تخيّب أملي إطلاقاً . و ما زال الحذاء الأول الذي اشتريته لابنتي طال عندما كانت طفلة ، معلّقاً في سيارتي كحرزٍ ضد عين السوء .
و في أحد الأيّام منحَني رجل "شاباك" متديّن سفر مزامير صغير فحملته معي دائماً و يواصل مرافقتي إلى كل مكان – للمكتب و النزهات و السفريات إلى الخارج ، دائماً يوجد معي في حقيبتي الشخصية .
شارك بتعليقك