9/3/2007
أرسل لكم هذا على حلقات للنشر وشكرا
قرية خُريش المُهَجرة والُمَدمَرة
تأليف: عبدا لعزيز أمين عرار
الفصل الثاني
السياق التاريخي لقرية خريش
خريش زمن العثمانيين:
نسب إلى خريش العالم الفقيه محمد بن أحمد الخريشي الحنبلي، الذي كان والده بناءً ودرس في الأزهر، وأقام في القاهرة مدة طويلة، ودرس وأفتى فيها، ثم قدم إلى القدس واشتغل بالتدريس.
كان عاملا خاشعا، كثير التهجد والقراءة، درّس الكثيرين من أهل القدس، ونابلس توفي عام 1100 هـ1593 م، وكان له ولد دعي إسحاق كان عالما عاملا أخذ العلم عن والده وأم بالمسجد الأقصى، و إليه النهاية في علم القراءات العشر حسن الصوت والأداء لا يمل من سماعه توفي في 1035 هـ ( ).
حوادث تخريب كفر قرع والزكور:
تقع خربة كفر قرع، ضمن أراضي كفر ثلث إلى الشرق منها، بينما تقع الزكور ضمن أراضيها إلى الغرب.
تعرضت كلاهما للتدمير من قبل أهالي كفر ثلث؛ ولأسباب مختلفة، مما أثر على توزيع سكان كفر ثلث، وامتدادهم وتنقلهم. وحول أسباب تدمير خربة كفر قرع، تقول الرواية التي يجمع عليها أبناء كفر ثلث، ويحفظها الكبار عن ظهر قلب:
كان أهالي كفر ثلث يتوجهون إلى مدينة نابلس للبيع والشراء، وأثناء مرورهم بجوار كفر قرع التي تسكنها حامولتي القراعنة والعثامنة.كانوا يتعرضون لمضايقاتهما فيصادرون حميرهم، وبغالهم ودوابهم، التي تحملهم ويثيرون مشاعرهم بقولهم:
يلي احمارتك مالك عليها غيرة نقل القرع يهريها.
وتضايق أهالي كفر ثلث، وثاروا لكرامتهم، وحرضتهم نسائهم، وتعرض بعضهم للتوبيخ من كبار السن في القرية، وتشاور الناس في الأمر، وأشار عليهم شخص يدعى بشير جد آل الأعرج في كفر ثلث، والضبعة، وعزون بترتيب حيلة، يتخلصون فيها من أهالي كفر قرع.
ادعى انه مضطهد، وأنه فر طنيبا إلى أهالي كفر قرع، وبعد فترة من مقامه فيها صار يفُسد فيها ، ويسمم علاقاتهم، حتى جاء يوم جمعه، وساعة صلاة الظهيرة، اشتبكت حمولتي كفر قرع بالعصي، والفؤوس، والخناجر، والأيدي.
وقام بشير بإغلاق الباب عليهم، وشاركه شخص آخر في حيلته، و صعد على الجامع، ولوح لأهالي كفر ثلث بخرقة كي يهبوا.
يظهر أن الخطة كانت محكمة التنفيذ، و خطط لها سلفا، وهبّ أهالي كفر ثلث يحملون فؤوسهم وعصيهم، وسيوفهم وخناجرهم، ودمروا الجامع على من فيه، وحصدوا الكثيرين منهم، وفر الباقون من الرعاة والنساء والأطفال إلى شمال فلسطين، وأقاموا في قرية كفر قرع في منطقة المثلث.
وانتهت هذه الخربة من الوجود، التي قدرت مساحتها بما يزيد عن ثلاثين دونما، ولا زالت فيها الآبار باقية، ويستعملها الناس في سقي دوابهم ومزروعاتهم، و بعد تهجير وترويع أهلها، تقاسمتها حمائل كفر ثلث .
بعد جولات قمت بها، وتقصي أخبارها وآثارها، وجدت أن فيها آثارا تعود للعهد الروماني، وأخرى للعهود الإسلامية، ولقد باع بعض السكان إلى تجار الآثار عملات نقدية تعود لعهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، ولكن السؤال المُحير متى دمرت هذه الخربة ؟!.
لم أجد أي كتابة أو تدوين إلى الآن يشير إلى هذه الحادثة، رغم أنها رويت على السنة الجميع في قرية كفر ثلث، ويحفظها أهالي عزون والقرى المجاورة، وفي تحليلي أن هذا الحدث يعود إلى بداية الحكم العثماني لفلسطين، وعلى الأغلب جاء تدميرها في بدايات القرن السابع عشر، بدليل أنها كانت قائمة عام 1596، وذكرها كمال عبد الفتاح في كتابه جغرافية بلاد الشام، المأخوذ عن دفتر الضرائب العثماني، وهو دفتر للضرائب الحكومية، وفيه ذكرت جميع قرى فلسطين التي دفعت ضرائب مهما كان حجمها.
تميزت الأحوال الاجتماعية في أواخر العهد العثماني بانتشار الفوضى و التخريب، وغياب دور القانون والسلطة، ثم تلاها حوادث القتل الجماعي بعد خلافات ومساجلات، كان دافعها التخلص من الظلم أو غيره، ومنها: القضاء على " العتوم " في عزون ابن عتمة، الذين حكموا القرى القريبة واضطهدوهم، وعسفوا في حكم الناس ، وكذلك حادثة قتل العصافرة والسمامقة في بيت جبرين الذين طردوا منها بحيلة.
هناك خرب كثيرة في فلسطين جرى تخريبها في العهد العثماني الأول، حيث سادت النزعة البدوية القبلية، والتسلط والقهر الاجتماعي، وغياب السلطة المركزية، التي أدت إلى تسلط الأقوياء على الضعفاء.
وحول تاريخ حدوث مكيدة كفر قرع. توجهت بسؤال إلى أحد كبار السن في عام 1974، فقال: "أنها لم تحدث في عهد أبي، ولا حدثت زمن جدي، وقال :"أذكر أنني سألت محمد موسى الذي عمر أكثر من مائة وعشر سنوات، فقال هذا لا أصحاه، ولا حدث زمن أبي"( ).
وهذا ما حملني على القول أنها كانت في القرن السابع عشر، وأن الذين شاركوا في أحداثها هم من حمولة الجماعة الغرابة، وهي أقدم سكان كفر ثلث وخربها، وعائلة بشير ( البشايرة )( ).
بعد زوال القرية، وهروب سكانها قام أبناء كفر ثلث بتقسيم أراضيها بينهم، واستطاعوا الوصول إلى عيون كفر قرع شرقا وأخذوا يستخدمون هذه العيون في سقي دوابهم، ونقل جرار الماء على رؤوس النساء، وعلى الحمير إلى بيوت القرية لغرض الشرب.
لم يقتصر غياب السلطة على هذه الحادثة الفاجعة، بل جرت حوادث أخرى.
ففي تاريخ لاحق من العهد العثماني في المنتصف الثاني من القرن الثامن عشر، توجه حسن خالد عودة للتعزيب في خربة خريش، وكان يمر في وادي قانا قرب خربة الزاقور، التي سكنتها الجماعة الغرابة، ومنهم : زقطة، وأبو ذيب.
وحاول هؤلاء منعه من المرور من ذاك الوادي ؛ فعقد العزم أن يفسد بينهم، ونجح بعد مدة من الزمن في إفساد علاقتهم باختلاق قصة عرض وشرف، فكان من نتائجها أن احتدمت معركة بينهم بالخناجر والسيوف، و تكررت الخلافات بينهم، فأهلكتهم الطوش والمساجلات.
واختار أهالي كفر ثلث الجهة الغربية من أراضيهم للتعزيب، وأطلوا على نهر العوجا، وبعد تعزيبهم في خريش والزاقور استقروا فيها. كانت خريش والزاكور خربتان، وفيهما من الآبار وحجارة البناء القديمة، مما شجع على الإقامة فيهما( ).
وانتقل بعض سكان حجة، وباقة الحطب، وكفر ثلث إلى طيرة بني صعب، وسكن أهالي مسحة كفر قاسم، وسكنت حمائل قراوة بني حسان قرية كفر برا، وامتدت أراضي كفر الديك إلى جوار مجدل الصادق في وادي العرب في حين، وصلت أراضي دير بلوط إلى نهر العوجا، ومثلها كفر ثلث، وبديا، وهكذا دواليك.
لقد دلني البحث أن عملية الانتشار، والتمدد، والتعزيب ثم الاستقرار.ظلت في تواصل على مدارات التاريخ الفلسطيني وحلقاته المختلفة، ويلاحظ أن عملية التعزيب ثم الاستقرار شملت مواقع كانت معمورة في عهود مختلفة، سواء أكانت كنعانية، أو ورومانية، أو إسلامية مبكرة. الكنعاني، رغم ذلك هناك أماكن لم تكن معمورة على الإطلاق، ولعل اسم غابة يجسد هذه الحقيقة أحيانا.
كانت سكنى وإقامة بلدة كفر ثلث متواصلة ومستمرة، وقد امتدت إلى الخرب المحيطة بها، وفيها أقامت حمائل القرية في فترات مختلفة، كانت أولى حمائل البلدة. حمولة سكنتها في عهد الروم مثل: الجماعة الغرابة، والبشايرة، ثم قدمت إليها حمائل: الرابي، وعودة، وشواهنة، والشملة، والرابي )، وضمن هذه التفاعل مع الأرض والإنسان تكونت خرب، ومنها: الزاكور، وخريش، ورأس عطية، ورأس طيرة، الضبعة، الأشقر، المدور، سلمان، واد الرشا.
التوطن البشري في خريش:
أسهمت بلدة كفر ثلث في توليد ما يزيد عن ثماني قرى وخرب كان منها: خربة خريش، ورأس عطية،هنا سأتناول خربة خريش التي دمرها اليهود، وحتى لا تمحى من الذاكرة، ونظرا لأهميتها لأبناء كفر ثلث قبل عام 1948 م.
قام أبناء كفر ثلث بالتعزيب في فصل الصيف في موقع " الهدفه " جنوب خريش، وكان ذلك في النصف الأول من القرن الثامن عشر.
وشملت حركة التعزيب هذه مرعب، وخالد، وعرار، والقصاص من الجماعة الغرابة، وأولاد بشير جد آل الأعرج، وكان هدفهم من الإقامة، حتى يستغلوها صيفا في زراعة محصول الذرة، ورعي الدواب، ويرجعون قبيل الشتاء إلى كفر ثلث للإقامة في مساكنهم، ورعي مواشيهم في الجبال، ولكن مشقة السفر والترحال، جعلتهم يفكرون بالإقامة فيها.
وبعد أن استقرت الأحوال السياسية والاجتماعية، حيث زال خطر نابليون بونابرت، الذي قتل خلقا كثيرا في مدينة يافا، ونشر الرعب في منطقة السهل الساحلي، أخذ الناس يميلون إلى الاستقرار هذه المرة، إلى جانب حدوث خلافات مع الآخرين، مما كان يسبب هجرتهم.
تبعتها ظروف أخرى خاصة بمن هاجروا إلى خريش والزاكور، وكان ممن فكر بالتعزيب في خريش كل من: عرار، وأولاده موسى وصالح وصلاح، وعبد الحفيظ، ومحمد، ومن بعده سعيد موسى عبد السلام، والحاج محمد حسن شواهنه، وغيرهم ممن جاءوا تباعا حتى عام 1948.
يعتبر موسى عرار أول من توطن في خريش بصورة دائمة، وانتقل من العزبة القبلية إلى موقع خربة خريش القديم.
استقر موسى العرار في المنتصف الأول من القرن الثامن عشر، واستخدم مغارتها لمبيت الأبقار والأغنام.
جاءت إقامة موسى الدائمة، بعد أن غرقت قرية كفر ثلث بالربا، من قبل شخص يدعى عامر، الذي جاء من قرية حجة من قرى جورة عمرة.
كان هذا الشخص يأتي إلى بيوت المدينين، ويضايقهم بطلباته، ويقول لهم: هاتوا كاكا (بيض)، ويفرض ضيافته عدة أيام.
ويسأل الشخص عن سداد النقود: فيرد عليه بعضهم حتى ينبل زمع الثور ( أي حتى يهطل المطر ) فيقول عامر: هانحن بماء الإبريق نبل زمع الثور.
تأسى وحزن موسى عرار ؛ بسبب غرق أبناء قريته في الديون. وفضل أن يأكل الخبيزة ويطبخها يوميا مع اللبن، على أن لا يخضع لسطوة هذا المرابي، فعايره هؤلاء بالبخل، فوقف ذات يوم على ظهر الجامع العمري في كفر ثلث، ونادى بأعلى صوته:
تعالي يا خبيزة المر، و يا خبيزة رأس طيرة عايريني.
ضايقه هذا الحال ودفعه لترك كفرثلث و شجعه قربها من نهر العوجا، وبئر أبو العون، وحتى يستريح من عناء السفر اليومي من كفر ثلث إلى قرية المر (المحمودية)، التي تبعد عن بلده كفر ثلث 13 كم تقريباً ( ).
يقدر الباحث أن هذا الزمن كان قرابة عام 1820، وبعد استقراره تبعه أخوته صالح، وصلاح، وعبد الحافظ، وكانت خصوبة الأرض في السهل الساحلي، وحاجتهم لزراعتها بمحصول الذرة البيضاء وغيره من المحاصيل، ووفرة الإنتاج تدفع باتجاه الاستقرار فيها( ).
أخذت أشكال التسلط والعنف ترهق الفلاحين، وتدفع ببعضهم للهجرة إلى خرب أخرى أو محاولة الانتحار، أو إلى سعيهم للتخلص منه، وهربوا إلى المغارات والكهوف للمبيت فيها، وأضطر البعض إلى تخليه عن الأرض لهذا السيد مقابل تخليصه من الضريبة.
أقام عبد الهادي القاسم علاقات متينة مع بعض العائلات على حساب الأخرى، كما أنه الحق بخيالته بعض أبناء العائلات في حبله، التي جعلها مقرا له، إلى جانب بيت وزن، وجماعين، وسلفيت، ودير استيا، ونسج علاقاته مع المخاتير على أساس تبعيتهم له.
ساعد عبد الهادي القاسم في قرية كفر ثلث وأعمالها مختارين، هما: الأول سلامه إسماعيل شواهنه، والثاني محمود جابر.
وقد عملا كوكيلين لمساعدته أثناء قدومه لتحصيل الضرائب، ولم يراعي هذين الشخصين سوء أحوال الفلاحين، ولقد أوغرا صدره تجاه أشخاص عديدون، وكان منها: أنهم فرضوا ذات مرة بعض المحصول كضريبة على غلة علي ظاهر غرابة.
وعاد المخاتير والمتنفذ لفرض مبالغ إضافية بحجة عدم كفاية المبلغ الذي طلب منه وهددوه بمصادرة عّمالين من البقر، كان يستخدمها في الحرث والدرس، ولما يئس الرجل من إقناعهم بوجهة نظره ومنطقه. قام بتعليق نفسه على شجرة صبار غربي القرية، وهددهم بالانتحار بأن ربط كوفيته في رقبته، ومر الناس به، فوجدوه في حالة يرثى لها، وخلصوه ، وتوسطوا له عند الزعيم المتنفذ عبد الهادي القاسم، والمختار (14)
صب عبد الهادي جام غضبه على العائلات التي أيدت آل ريان ، ومنها : حمولة الغرابة ، وعوده ، ولما كانت حمولة الجماعة الغرابة من اقدم حمائل القرية، و تملك مساحة كبيرة من الأراضي، لا تتوفر لغيرها، ، لهذا تعرضوا لإضطهاد يفوق الحمائل الأخرى ،وهو بهذا العمل كان يثير النعرات العنصرية بين حمائل المنطقة .
وتعرضت خيالة عبد الهادي القاسم بالسلب والنهب لمفحمة صنعها حسين الصيفي غرب كفر ثلث، وذهب إلى قلقيلية (طنيبا)واحتمى عندهم، وجاء فريق منهم إلى عبد الهادي القاسم، وهددوه إذا تعرض له مرة ثانية (15).
وحاول عبد الهادي استمالة أشخاص عرف عنهم الرجولة، والقوة البدنية، فقد حاول استمالة أولاد موسى العرار، وهم محمد، ومحمود، وعيسى.
حدثني أحد الرواة: ـ" أرسل عبد الهادي القاسم يطلب أولاد موسى العرار، ومعهم أبيهم، فتوجهوا إلى قصره في حبله، وهّموا بالدخول إليه، فتصدى لهم حراسه عند الباب، فضربهم أولاد موسى بالنبابيت، وطرحوهم أرضا، وأحدثوا في قصره اضطرابا وصياحا.
سمع عبد الهادي الهياج والصراخ، فصرخ في حراسه، وسأل الأخوة ومعهم والدهم أن يدخلوا إلى قصره، واعتذر لهم عن موقف حراسه.
وتقدم إلى أحدهم بسؤال: ماذا سيكون ردكم لو أن الحراس ضربوا أبيكم؟
فردوا عليه: ـ إننا سنقيم قيامتهم، ويكون ردنا أعنف، عندها ربت على أكتافهم.
وقال لهم: نيال أبوكم فيكم، وتقرب إليهم.
وعين بعدها محمود موسى مختارا، ومؤتمنا على بعض الأراضي، وسجلها باسمه، في حين استعان بأخيه محمد في تنفيذ مآربه تجاه خصومه آل ريان، وأعطاه مقابل خدمته قطعة أرض كبيرة قرب المويلح، وسجلها باسمه " (16)
وحول هذه الخدمة حدثني راو آخر فقال: ـ
"أرسله مرة من المرات إلى مجدل الصادق، وهي محاطة بسور، وطلب منه أن ينقب في الصور ثغرة.
نجح محمد في نقب الثغرة بمساحة متر مربع، وصحا عليه رجالات الصادق ريان. رجع محمد إلى خريش مسرعا، وهو مشهورا بقدرته على ( الرماح ) الجري حتى صار مضرب مثل هو: أنت محمد الموسى " "
واحتارت عائلة ريان من الفاعل، وحامت شكوكهم حول عبد الهادي.
ونجح عبد الهادي في زرع الوهن في خصومه، وأعطى محمد قطعة ارض في المويلح، وطّوبها باسمه (17) .
أصاب عبدالهادي في كبره الضعف والعجز ، كما عجز عن جمع الضرائب والمبالغ المستحقة، وتضايق الناس من تصرفاته.
وتضايقت حمولتي عوده ، والغرابه من عبدالهادي ، وتلطه عليها ، فقرر عدد منهم وضع حدً له ، وعزله عن ضممان المنطقة .
وقرر سعيد موسى عبد السلام الذهاب إلى المحكمة في نابلس لرفع شكوى عليه.
ويبدو أن الحاكم لم يكن في صفهم ، فأثناء الجلسة .
قال الحاكم: من أحضر هذا الحمار إلى هذه المحكمة.
فرد عليه سعيد الموسى: إذا كنت حمارا، فهذه المحكمة خانجي، وعلى كتفيه حمل عبائته، وخرج من الباب.
وقرر سعيد أن يشكوه إلى والي بيروت بتشجيع من عثمان أبوحجلة ، وشاركه عبد الله أبو خالد، ووهدان قزمار، وعثمان أبو نمر، وكانوا أربعة أشخاص ، قرروا التوجه إلى الباشا، لكنهم اختلفوا في الطريق قبل وصولهم ،وظل سعيد وعبدالله يواصلان المسير ،وبعد أن وصلوا أمسك سعيد بديماية عبد الله أبو خالد، ووجدوا بباب الوالي عددا كبيرا من الناس مجتمعين، فقرروا الدخول بالقوة، واندفعوا من بين الجمع، حتى وصلوا الوالي في سراياه، وتعجب منهم، وعرضوا له قصتهم فسألهم: ومن سيضمن المنطقة.
قالوا عثمان أبو حجلة لديه الاستعداد. ورجع سعيد وعبد الله أبو خالد، ومعهم فرمانا عثمانيا بعزل عبد الهادي القاسم، وتعيين عثمان أبو حجلة الذي دفع الضمان وعن هذه الرواية، التي ذكرها أشخاص عديدون، يقول أحد الرواة: ـ
" قوي أبو حجله ماديا، وقصروا دار قاسم في الجباية، وتوصل أبو حجله، وأهالي كفر ثلث للوالي، وشجع جماعة من البلد للذهاب إلى نابلس، وبيروت، واستنبول، وكان منهم عبد الله أبو خالد، وسعيد الموسى، ووهدان غرابه، وعثمان أبو نمر.
أيدهم أبو حجله، وجاب أبو حجله خرج مصاري ذهب مجيدي،وقال :هذه ضمان قرى الجماعينيات، ومنها :كفر ثلث، قراوة بني حسان، سنيريا، دير استيا وطرد عبد الهادي، بعد أن احضروا له فرمان، وفرحت بلاد جماعين، حتى أن أهل قراوة بني حسان ولعوا مشاعل نار كنا نشاهدها من كفر ثلث "(19)
وجاءت زعامة عائلة أبو حجله بأسلوب جديد تم فيه إقراض الناس بفائدة 13%-16%، وأصبح فالح أبو حجلة من مشاهير المرابين في منطقته، وقيل لمن يستهزئون بماله القليل: " أي هيه مصاري الفالح"،أثر التجنيد الإجباري وحرب اليمن على السكان:
عانت الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر من جملة حروب وفتن داخلية، فأعداؤها طمعوا في نهب خيراتها، وتقسيم تركة الرجل المريض.
ورغم أن الدولة العثمانية حاولت إجراء إصلاحات داخلية، لكنها فشلت في تشديد قبضتها، بعد تنامي حروب الانفصاليين والثورات، التي كانت أبرزها حرب اليمن، وحرب القرم، وحروب البلقان عجزت عن استرداد قوتها ودحر الطامعين من مستعمرين ويهود.
قامت الدولة العثمانية بتسيير جيوشها لخوض الحروب مع الثورات الانفصالية، والتي جندت إليها رعاياها من العرب.
كان لفلسطين نصيب من التجنيد الإجباري، الذي شمل القرى والمدن، وقد سبب آثاراً سلبيةً في المجتمع الفلسطيني؛ حيث سبب المعاناة الدائمة والمستمرة في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والخراب، إلى جانب ما ذكرناه آنفاً من سوء الإدارة
لقد اشتدت آلام الهجرة والفرار وسكبت الدموع والحسرات من عيون النساء غزيرة مدارة على الشباب الذين سيقوا إلى الحرب كما تساق الإبل والغنم، وتساءلت النساء العربيات الفلسطينيات بدهشة حول وجهتهم وأين يذهبون ؟؟!
أيا ترى إلى حلب أم إلى اليمن أم إلى استنبول ؟!
ولماذا يركبون البواخر والسفن، ويجوبون عباب البحر ؟!!
كانت هذه هي زفرات الحزن والألم، وقد عبرت عنها النسوة بقولهن: ـ
يا عسكري وأنت عسكري من وينته شعر الغوى تحت الطواقي فرينكا
وأنا لطلع على حيطان عكا وأشوف ظعنهم وين لقا
ويا عسكري وربك على حلب ولا على استنبول ولا يا عسكري وين بدور
ووصفت سلطة الأتراك التي حملت الشباب وحشرتهم في السفن كتجار الغنم الذين يسيرون بها من مكان إلى آخر، وتشهد النساء على الحدث بترانيم حزينة فتقول: ـ
جلبوا الشباب كجلب الغنم
جلبوهم ونزلوهم على اليمن
جلبوا الشباب كجلب السخول
جلبوهم وطيحوهم عل بحور (25).
وقد انعكست هذه الأوضاع السلبية على شباب كفر ثلث وخريش، وعن المآسي التي رافقت هذه الحالة يذكر أحد الرواة: ـ " لقد جند أولاد موسى العرار من خربة خريش، وهم: محمود، ومحمد، وبقي عيسى يربي أولاد اخوته احمد وموسى، و كسرت رجل محمد في الحرب، وقعد إحداشر سنة، وأصيب بالعمى يوسف مصطفى، وفقد بصره حيث لا طب ولا دواء، ،ولم يكن غير زبل الدجاج دواء للعيون ورجع الأخوين عن طريق البحر، ونزلا على شاطئ يافا، وبلغ الخبر مسامع أهالي العائدين ، وفرح الناس لعودة الطابور، والتقت النسوة بأزواجهن وبحلق الأولاد في آبائهم، وتنكر الإبن لأبيه، وبلغ محمد خبر وفاة زوجته الرابعة" (27).
ولا بد للفرح أن يغمر نساؤهم وأخواتهم وأبنائهم، بعد أن يأتي المبشر الذي يتجول في القرية راكضاً، ويصيح بأعلى صوته، مردداً الأسماء التي عادت إلى بلدها.
قالت النساء في خريش وكفر ثلث معبرات عن سعادتهن برجوع الأهل والأحبة: ـ
لمن طلعوا من اليمن دقوا حديد الخيل
الله مع أبو موسى والمبشر في الكيل
ولمن طلعوا من اليمن دقوا حديد أوتار
الدمع أبو موسى والمبشر ركاض.
ومما قالته النساء: ـ
ورغم المأساة فان صورة العسكري، الذي يحمل الرتب والنياشين تخلب اللب ، وهذه بعض الأبيات اللواتي قلنها .
وها العسكري أجانا من الشام وعلى صديره لابس نيشان
وها العسكري أجانا من بعيد وعلى صديره لابس قمباز حديد (28).
شارك بتعليقك