طرد أبناء خريش وتهجيرهم :
أخذ الاحتلال يصور قرية خريش كقرية غير مسالمة يجب ترحيل أبنائها،وقد تذرع الاحتلال بحجج مختلفة وراح يأتي بالأباطيل، ، وجرى تطبيق برنامج التهجير الصهيوني والتطهير العرقي وقام الاحتلال الصهيوني بالتنكيل بهم، ومنعهم من شراء ملابس من خارج القرية، وأن الاحتلال الصهيوني كان يخطط لطرد الخريشيين، وهذه أبرز الخطوات التي تمت في هذا السبيل، حدثني أحد الرواة قائلاً:
"جاءت دورية إسرائيلية و تقدمتها سيارة مدنية فيها عدد من الضباط العسكريين، بينما كانوا في طريقهم إلى القرية شاهدوا الشاب محمد الحاج موسى ، يتجول في شوارع القرية بثقة وروح شبابية عالية، ويلبس لباساً كاكي (خاكي)، ويبدوا على هيئته الحيوية والنشاط، وسألوا أحد الأشخاص في القرية عن عمله، وبعدها جاءوا لاعتقاله ليلا، وقد نسبوا إليه تهمة جنائية، وهي قتل عربي، وقتل يهودي في الحرب العربية ـ الصهيونية 1948 " ( ).
وانتهز زكي الدرزي مسئول حرس الحدود العسكري الصهيوني، تهمة نسبها إلى محمود الشيخ أحمد عرار، واتهمه بأنه دبر حيلة لسرقة آلات كسارة مجدل الصادق، التي كان يحرسها . وأنه قام بالتنسيق مع أشخاص من كفر قاسم، وحاولوا الصاق التهمة فيه مستغلين غيابه في ذلك اليوم، وذهابه في زيارة إلى عمه عمر الحاج محمود في كفرقاسم، وتجمع عدة روايات أن هذه كانت حيلة مدبرة ووسيلة لاستدراجه، وان صاحب الكسارة أوعز له أن يستريح من عمله، وعاد ليشتكي عليه، ويلصق فيه تهمة سرقة آلات الكسارة، .
قاموا بضربه ضرباً مبرحًا حتى حدث نزيف داخلي في دماغه (جلطة على المخ ) أدت إلى أن يختل عقليا، ويصاب بالجنون، وقاموا بنفيه عن طريق جسرعبد السلام جنوب قلقيلية إلى الضفة الغربية، وذهب إلى أقاربه في قرية الضبعة، وأقام في حبله لشهور عديدة. وبعد مضي عدة شهور قررت زوجته اللحاق به، ولحقت انيسة عمر الحاج محمود بزوجها ومعها والدته جميلة عرار، وولده أحمد، وابنته مهدية ( ).
كان عدد من شبان القرية في جيئة وذهابا بهدف الزيارة وإحضار حاجيات، أو تهريب بضاعة للبيع، بعد فرض حصار على القرى العربية الفلسطينية، وحلول فقر مدقع في الضفة الغربية.
حدثني أحد الرواة الذي تسلل إلى خريش ليزور والدته العجوز، وكان وحيدها وقد ذهب إلى نابلس لزيارة أقارب له هناك، وشراء حاجيات، ورجع إلى خريش:
" ضليت رايح جاي على أمي والجيش يلاحقني أخيرا قبضوا علي في الدار وأخذوني على الشرطة في دار عارف في قرية جلجولية وقعدت أيام، وأمي جاءت لزيارتي منعوها، وقفت على الشارع ونادت علي وأنا وقفت على الشباك، وقالت لي الحمد لله أللي شميت ريحتك يا ولدي، وأمضيت بطلع ست شهور، وأبعدوني للضفة الغربية أنا وأمي "( ).
وتذرعت سلطات الاحتلال بتسلل الشاعر الشعبي محمد خروب من قرية حبله المجاورة إليها ،وأنه يأتيها متسللاّ ويعيث فيها خرابا وفسادا، فوضعت له كمائن، وكان هذا الشاب يمارس تجارته التي تعود عليها ، ويتاجر في بيع التبغ والملابس الشعبية،وعندما يعود يحمل بعض أكياس البرتقال من وطنه المسلوب ويبيعها في قرى ومدينة قلقيلية ، وليسد عوزه وضنك عيشه ،ظلت سلطات الاحتلال تهدد وتتوعد أبناء خريش من قدوم محمد الخروب وتسلله وتهددهم باتخاذ إجراءات قاسية كالسجن والتهجير .
حضر كعادته إلى خريش التي تبعد عن قرية حبلة بما لا يزيد عن كيلومتر ، وتكررت الاتهامات وتوجه حرس الحدود إليها للقبض عليه، وكادوا أن الفوز به لكنه فر من بين أيديهم إلى بيت صالح حسين عرار، وبيت عثمان عرار، وفشلوا اللحاق به، وعاقبهم الحاكم العسكري بطرد أسرة صالح حسين عرار، وسجن ولده إبراهيم في ملبس، بتهمة التواطؤ وتسهيل هربه.
وأتبعها بطرد السيدة شيخه زوجة صالح حسين، وأولاده وبناته، ومنهم صبري وإبراهيم، ويوسف، وسعيد، وأسعد، و توفيق، و آمنة ،وجميع أفراد الأسرة، وكذلك أسرة عثمان محمدعرار، ومعه زوجته وبناته ومجموعهم تسعة أشخاص، وكانت هاتين الأسرتين معروفتين بملكيتها الواسعة والكبيرة في القرية بما يتجاوز 400 دونم .
وكذلك طردت أسرة رشيد إسماعيل عيسى، وكانوا خمسة أشخاص، ومنهم رب الأسرة وزوجته مريم أحمد وولديه جميل، وأنور وابنته نوره، وعن أحداث التسلل حدثني المرحوم إبراهيم صالح حسين:
" في البداية اتهموا أهل القرية بإيواء متسللين، وبعدها جاءوا للقرية يبحثون عند جامع القرية عن محمد خروب، وكان يقف عند المسجد عثمان محمد عرار، وصالح حسين عرار، ورشيد إسماعيل عيسى، وسألوهم عن هويتهم الشخصية . أبرز الجميع هويته ما عدا محمد الخروب الذي كان مطلوبا، هان محمد خلا الجنود ساهين، وأسرع بالهرب من بين الدور، عندها قرر نائب الحاكم العسكري فولي طرد والدي وإخوتي بعد أن عذبوا والدي تعذيبا شديداً، وضربوه على رأسه، ومات وهو أطرش ، وطردوه عن طريق جسر عبد السلام عند قلقيلية، ومعه جميع إخواني وأخواتي، ما عداي وأخي يوسف بقينا في خريش، ويعود سبب طردهم لوالدي انه كان ملاك كبير أملاكه اقل شيء ميتين0 دنم،وقاموا بطرد عمي عثمان محمد عرار لنفس السبب بتهمة التواطؤ ومساعدته على الهرب، وكانت أملاكه لا تقل عن أملاكنا في خريش، ثم أنهم طردوا رشيد إسماعيل عيسى بعد اعتقال دام عشرين يوما، وعذبوه وطردوه غصبن عنه، وتبعته زوجته وأولاده "( ).
وتوجهت لسماع رواية أحد ورثة المرحوم رشيد إسماعيل عيسى فذكر رواية أخرى عن طرد والده، حدثنا أنور :
" أرسل عمي يعقوب إلى والدي بقرة كهدية من الضفة الغربية، وكان يقيم في كفر ثلث، وقد وشى أحدهم أن أبي المرحوم رشيد إسماعيل يقوم بتهريب أبقار وأغنام، ويقوم ببيعها في السوق الإسرائيلي بأغلى الثمن، فقامت قوة من الجنود باعتقاله وسجنه في ملبس، وشرعوا بالتحقيق معه، عن البقرات التي بحوزته، وهددوه بتفريغ المسدس في رأسه وضرب ضربا مبرحا، فرد على رجل المخابرات هذه بقرتان لي املكهما منذ زمن بعيد، وماذا يعنيك أنت فيهما ( ).
وتذرع رجال المخابرات الصهيونية بهذا العمل، فوضعوه في سيارة عسكرية صهيونية ونفوه للضفةالغربية، عن طريق جسر عبدالسلام في الجهة الجنوبية من قلقيلية.
مواصلة قتل الفلسطينيين بحجة التسلل:
كان من نتائج الحرب العربية ـ الإسرائيلية أن انقسمت فلسطين وتجزأت أرض الوطن، وارتسمت حدود جديدة، إلا أن الروابط والأواصر ولم الشمل بقيت لاغني عنها، مما يعني استمرار الزيارات المتبادلة رغم الحواجز التي أقامها الاحتلال الصهيوني . لقد أطلق عليها الصهاينة كلمة "التسلل". مارس الفلسطينيون أساليب ووسائل شتى للرجوع أ و زيارة وطنهم السليب عام 1948، ونجملها فيما يأتي:ـ
1)قامت مجموعات من العرب الفلسطينيين بالرجوع إلى قراهم، تارةً لمعرفة ما حل بها، وتارةً أخرى لالتقاط ثمار البرتقال من البيارات التي زرعها الآباء والأجداد، أو بهدف استرداد حوائجهم التي تركوها أمام الإرهاب وهجوم عصابات الصهاينة في الحرب .
2)قام بعضهم بسرقة أبقار هولندية من الكيبوتسات الصهيونية مدفوعين بروح الوطنية والمقاومة .
3) ظل البعض يمارس حرفة التهريب تارةً بإرسال الأغنام والأبقار، وتارةً أخرى يتاجرون ببيع الحوائج، معتبرين أن الوطن لم يتجزأ، وغير معترفين بالجغرافية السياسية التي سعى الاحتلال الصهيوني لصياغتها.
قابل الكيان الصهيوني هذه الظاهرة بالقتل والتعذيب والسجن والسحل، واعتبرتها مظهراً غير شرعي، وسعت لمحاربته بشدة وقسوة بالغة، في حين أخذ(المتسللون) يتجهون نحو العمل الوطني ويزرعون القنابل والألغام، ويدافعون عن أنفسهم.
لقد قام (المتسللون) إلى وطنهم باقتحام الأهوال وسرقوا الأبقار، ووضعوا الكلاليب في أنوفها، وباعوها في الضفة الغربية في عام 1951، العام الذي أطلق عليه بـ(سنة التمر)كما أسلفنا .
حدثني خالي أحد الذي تكرر ذهابه وإيابه وعن الأسباب التي دعته، فقال:
"وجدنا حالنا في حاجة وبعد خسارتنا لأرضنا في خريش ولم نستوعب الفصل الذي حدث والأرض أرضنا، ولم يكن حالنا يسر الخاطر تحت الحكم الأردني. لقد قمت بتهريب طرش غنم بالقرب من حبله بعد أن رشوت ضابطا في الجيش الأردني أوائل عام 1950، وجرت عمليات أخرى لتهريب أبقار وأغنام قامت بها مجموعات من قرى نابلس، وتولى عمر الحاج محمود بيعها إلى بدو بير السبع، وتكونت من موسى مقبل في كفر ثلث، وسلمان سلمان في قرية دير استيا، ورفعت الحواري في قرية حواره، و نجح هؤلاء بدورهم في تهريب عدد من الأبقار الهولندية إلى الضفة الغربية، ولقد قام بعض المتسللين بإحضار نقود إسرائيلية وتبديلها عند الكاهن يعقوب ألسامري، ونقلوا برتقالاً، وطحينا" ( ).
وبسبب التسلل تعرض بعضهم لتقطيع أجسادهم، وفي ظروف غامضة .
واضطرت واحدة من الأمهات وهي جدة الباحث المرحومة حمده ظاهر شواهنة لزيارة ولدها حسن عبدالهادي في خريش، ففي يوم ماطر وزمهرير البرد يخر إلى الأحشاء،ذهبت إليه مع ابنها عثمان عبدالهادي، ويظهر أن السلطات الأردنية علمت بالأمر حيث عرف الواشون، فاستدعيت إلى مغفر سلفيت، وخرجت من المعتقل بالكفالة.
وأخيرا أنفجر حقد الاحتلال وأفصح عن غضبه تحت دعوى أنه ما عاد يطيق أحداث التسلل، وأنه ليس بإمكانه وضع قوة حراسة أو نقطة جيش في هذا المكان، وكانت الحكاية التالية كما يذكرها الراوي:ـ
" تظاهر الاحتلال أن القرية صارت مزعجة للشرطة والحكم العسكري لكثرة ورود إخباريات ووشايات عن قدوم متسللين، وتهريب أبقار وأغنام وبضاعة وكانوا الشواهنة في كفرثلث رايحين جايين على قرايبهم (دار الحاج ودارالخطيب) ودار عودة على قرايبهم (دار عرار وعبد السلام ) والناس ما لها خلاصه من بعضهم البعض، وأخيرا قرروا أنها قرية مزعجة وليس لها لزوم إن تبقى على الحدود وقرروا ترحيل سكانها إلى جلجولية أو أي مكان آخر يختارونه وبقدر أقول لك حصل هذا بترتيب مسبق ودراسة مع شخصان إلى ثلاثة أشخاص كانوا ينخرون كالسوسة فيها"( ).
وفي هذا السياق يعتبر يوم 28 شباط 1952 اليوم الأخير الذي فرح فيه سكان القرية في مساكن قريتهم، وفي هذه الليلة جاءت إلى خريش دوريات عسكرية تحمل جنودا وضباطا، حدثتني عمتي فقالت:
" كنا نسهر عند دار عمي عمر الحاج محمود، فالتقى الجنود بحسن، فضربوه بجنزير حديد حتى صار منخاره ورأسه ينزف دم، وتنفخت عينيه، ودخل الدار ممرغ دم، وينتفض مثل الغرفة، راحوا على دار عمر الحاج محمود، وكان يتحمم ومعه زوجته، وانتظروه حتى يفتح الباب حطوا فيه قتل، حتى سقطوه ع الأرض، وراحوا على دار المختار إدريس الحاج محمود ، واتجهوا إلى بيت مصطفى الخطيب واتخبى تحت التخت بعدما أقلقوا راحتهم ، وبعدها راحوا على دار محمد عبدالرحمن وإخوته، ووجدوهم تخبوا تحت الملحفة ودبوا فيهم قتل ، والتقوا بالبنات، قالوا هذوله بنات دشروهن، ودخلوا على الختيارة الضريرة حليمة الحامد زوجة سيدي محمد فرفصوها في بطنها وما خلوا حدا إلا بهدلوه وأهانوه، وضربوه، وقالوا :ـ
يا الله بدكم ترحلوا عن خريش، وإلا بتموتوا أو بتخرجوا للضفة الشرقية " ( ).
ذهب أبناء خريش في اليوم التالي إلى الضابط زكي الدرزي شاكين وباكين و علامات الضرب في أجسادهم، ولكنه أخذ يضغط عليهم للهجرة منها .
حدثني عمر أبوحسن عوده قبل وفاته:ـ
" سألت الحاكم العسكري، لماذا تعاملوننا بهذا التعامل، ماذا فعلنا؟ .
رد الحاكم العسكري علي عليكم الخروج وهذه أفضل لكم، وإلا سيتواصل ضربكم وتعذيبكم، ومعكم أربعة وعشرون ساعة حتى تخرجوا، وإلا فالموت هو مصيركم المحتوم، إن قريتكم مخلة بالأمن العام، أنتم تقومون بإيواء متسللين " ( ).
بعد تحذيرهم وتهديدهم بالخروج في مدة يوم، وإلا فإن الموت سيكون مصيرهم، أو يقذفون إلى الضفة الغربية.
حضرت إليهم في اليوم التالي دوريات من الجيش واقتادتهم جميعاً في سيارة عسكرية إلى جلجولية .
وتم ترحيلهم إلى جلجولية وكفر قاسم في الثامن والعشرين من شباط عام 1952، وتصرف معهم كلاجئين حيث أسكنهم في قطع محدودة من الأرض في قرية جلجولية، وكل شخص بنيت له بايكة من الزينكو، وسلموه بعض الزيت والطحين شأنهم في ذلك وكالة الأمم المتحدة في توزيع المؤن على اللاجئين عن ذلك تقول الراوية:ـ
" دار أبو الخطيب قعدوا في البيارة عند دار أبو حجلة، وقعدوا في بايكة بعدها قعّد اليهود كل عيلة في تخشيبة وأعطونا نمرة مطرح دار، وكان لي تخشيبة وتخشيبة أخرى لأخي عبد الحافظ وزوجته عائشة أبوحطب، ولأخواني إسماعيل ونعيم، ومحمد، وكنا نشرب الماء من حنفية في ارض المشروع التي يشرب منها أهل جلجولية، والباقي حطوهم كل واحد في خشابيه.
ومنهم دار ابوحسن عمر وأولاده، و دار أسعد الأحمد، ودار سعيد الأحمد، ودار عبدا لرحمن حسين، و دار حمدان عبدا لرحمن، ودار مصطفى خطيب، و دار الحاج عبدا لله، ودار تيم أبو خالد "( )
وتذكر نشرة صادرة عن دار الشرارة الاسرائيلية:ـ "القسم الأكبر من سكان جلجولية الحاليين لاجئون من قرية الخربة في الضفة الغربية وتم إجلاؤها إلى جلجولية عام 1948.
كما الحق لهم لاجئون اضافيون من خربة خريش التي اجلي سكانها عام 1952، "( ).
بعد أن أسكنهم الاحتلال في تخاشيب مسقوفة بالزينكو في جلجولية وكفرقاسم، وقد اختارت أسرة عمر الحاج محمود الذهاب إليها بدلاً من جلجولية.
واستفادت من عدم تطويب أراضي القرية إلى حد كبير، وفعلت ذلك بخربة الزاكور المجاورة التي سكن فيها بعض أعضاء حمولة الغرابة، ومنهم حسن عطا رزق الله وقامت السلطات الإسرائيلية بمصادرة أراضيها ، و وضعت اليد عليها، وبقي البعض يزرع ويفلح أرضه، في حين تركت بعض الأراضي بدون زراعة حيث هاجروا إلى الضفة الغربية .
تدمير قرية خريش:
تعرضت القرى الفلسطينية للتدمير والجرف بالجرافات بعد خروج وطرد وترحيل أبناء البلاد، وكانت تتم أحيانا عملية تدمير محدودة، كأن تترك المقابر أو بعض المقامات الدينية خوفاً من إثارة المشاعر الدينية والاحتجاجات ولإظهار وجه ديمقراطي أمام الرأي العام المحلي والعالمي، وبدورها تعرضت خريش عام 1952 إلى تدمير المباني باستثناء الحفاظ على بيوت محدودة لم تهدم وقد استغلت في بعض الأغراض والمهمات ومنها (علية الحاج موسى عيسى)، وهي بناء ذي طابقين كلف صاحبه حوالي مائتي جنيه فلسطيني، الذي بني من الحجر، وقد جعلها أعضاء الكيبوتس الإسرائيلي منطرة لحراسة إحراج خريش والزاكور، واستخدمها ناطور الأحراش حسني عبد الغافر لهذا الغرض، وهدمت باقي بيوت القرية الأخرى، بينما بقي بيت الحاج موسى عرار الذي استخدموه كمخزن وهو عبارة عن ثلاث غرف بمساحة 48 م2، كانت أبوابها تتجه شمالا وأخيرا هدمت في عام 1987، وبقي جامع القرية ومقبرتها وبعض أشجار زيتون، ورمان، وتين، وصبار، ولوز، وآبار القرية وبعض الأحواض الصخرية .
وأسهم أبناء خريش مثل باقي خرب وعزب كفرثلث في النضال الوطني والقومي والإسلامي وفي فعاليات الانتفاضة ومنهم الشهيد جمال محمد موسى عيسى عبد السلام عودة الذي استشهد في إحداث مخيم طولكرم في 14/8/1988، واستشهدت كوكب حمد الله عرار في مظاهرة حدثت بقرية جلجولية في 17/3/ 1990. حيث استنشقت الغاز المسيل للدموع ولقد بلغت السبعة عشر ربيعا من عمرها . والاستشهادي عبدالباسط عودة .
خريش تعيش في ذاكرة الأبناء:
لم ينقطع أهالي كفر ثلث الذين هاجروا إلى خريش أو ولدوا فيها من زيارتها في أعيادهم ومناسباتهم، ومن الحديث عنها، وان الدموع تترقرق كلما تذكر ساكنوها ملاعب الصبا وأراضيها وطرقاتها ومسالكها، وكل ذرة تراب زرعت فيها .
ويظهر الشؤم، والامتعاض، وامتلاك مشاعر الكراهية وجلد الذات أمام انتصار إسرائيل على أمة العرب، وهذه أغنية شعبية تتساءل عن هذا الانتصار للعدو،
ورغم أن حجم الكارثة كان كبيرا، إلا أن الإنسان العربي الفلسطيني الُمهّجر من أرضه ظل يأمل في الرجوع إلى بلاده، وعن هذه الكارثة انشد المرحوم إبراهيم صالح حسين عرار الذي طرد منها عام 1949:ـ
هاجرنا وأصبحنا طنايب بعد ما كنا حبايب
وحجارة السهل بتنادي ويا مهاجر على بلادك قوم
غني ياليل غني غني على أوتار العود
بلكن عصفور الجنة على بلادي يعود ( ).
وتذكر إحداهن كيف أن دموعها نزلت غزيرة مدرارا، وأي مصيبة أحدثها موسى شاريت أحد قادة الحركة الصهيونية، وأي تغيير أحدثه الاحتلال على الأرض العربية، فقد شقت شوارع جديدة، وهدمت بيوت القرية، وجيء باليهود والأمريكان، من خارج البلاد للاستيطان فيها، قالت المرحومة صالحة مصطفى جابر:ـ
يا عيني هيلي من الدمع كاسي على اللي رمونا في بلاد الناس
ريتك يا شرتوك تبلى بالقواس أحرمتونا من الوطن ياعيونا
وبعد انتهاء حرب 1948 حدث عرس للمرحوم حسين عبدالرحمن ابوهنية من كفرثلث، وحضر زجال شعبي من قرية سلمه، ويدعى حسين خيرية، فوصف حال القرى العربية، ومنها خريش سواء استبسل أهلها وصمدوا أم تخاذلوا، وكانت سلمه والطيرة العصبية أكثر القرى التي أبدت مقاومة، وشجاعة وإثارة فخر أبناء البلاد وإعجاب الشعراء فقال الزجال حسن خيرية:ـ
دوسي ع الفرشة دوسي ويا حلوة يا عروسي
جسمك كالأسطول الروسي ومصوب ع الألمان
تحيا يافا الغربية وسلمه مع الخيرية
وكفر عانة المخزية شاطرة في ذبح الأبقار
وبالطيف ويا ستار تلطفنا من اللي صار
وإما الطيرة القبلية وكل عملت اتفاقية
يلموا البقر بالمية وبدوهن على الكبانية
واللد ويا خسارة والرملة ليها جارة
وابن شيمن المكارة وفيها جواسيس إكبار
كفر قاسم مع خريش وسكنت فيها قوة جيش
ولليش الضرب لليش وإحنا ولينا الإدبار( )
أهالي خريش وموقفهم من التعويضات:
بعد أربع سنوات على طردهم من خريش أخذ الاحتلال الصهيوني يلوح بمبدأ تبادل أرض بأرض، أو تسليمهم نقود، ولكن كيف يكون ذلك ؟
اعتبرت إسرائيل أراضي خريش أراضي خريش أراض جبلية، وغير مسجلة، ومعنى ذلك أنها تقايض الكثير بالقليل .
وقد حاولوا التعامل مع الأشخاص بمقاييس غير محددة . في البدء قاموا بتعويضهم لكل رب أسرة 500 م2، متذرعين أنهم لا يملكون سندات طابو، وفي الوقت الذي يعرضون على بعضهم تعويضاً مالياً كانوا يعرضون تعويضاً بالأرض لمن معه قوشان وسند طابو، وفي حالات نادرة قبلت بوجود الحجة بدلا من الطابو واعتبرتها وسيلة إثبات، وفي بعض الحالات حصل البعض على تعويضه قطعة أرض جديدة، وحينما مات منعوا انتقالها لورثته، وفي حالات أخرى منعوا من البناء في جلجولية، حتى يتنازلوا عن حقهم في خريش، في حين حصل بعضهم على قطع أراضي بعد عام 1967، وذلك بسبب تقديمه خدمات جاسوسية( ).
بعد عام 1967 نشطت جهود براون المدير العام لدائرة الأراضي في إسرائيل المسماة الكيرن كييمت ومعه سمسار عربي، وحضر إلى بيت أحد الوجهاء في كفرثلث ومدعوما من الحكم العسكري والمخابرات، وحاول أن يجتمع بعدد من الملاكين، ومن بينهم: حسين شقير، وعبد الهادي عرار، وهدى محمود، وغيرهم، فلم يلاق منهم سوى الرفض .
كان الفلاح عطا حسن رزق الله الذي سكن خربة الزاقور القريبة من خريش أكثرهم صلابة في رفض التعويض والمقايضة وتغيير موقع أراضيه، فقد رفض التخلي عن أراضيه البالغة 12. دونما، ورفض تعويضها بأراض قابلة للبناء بجوار جلجولية، وكان رأيه هذه ليست لي ولا يحق لي التعويض، وظل يدافع عن أرضه ويزورها يوميا إلى الآن ويعد أفضل نموذج لرفض المساومة وعدم التخلي عن الثوابت ة رغم مظاهر الشيخوخة والعجز من الكبر، وقام بتوكيل ثلاثة محامين للدفاع عنها منذ عام 1950، مات منهم اثنان .
يقوم عطا رزق الله يوميا بالذهاب إلى أرضه على حصان يجر عربة مخترقاً مستوطنة يرحيف، ومستوطنة نيريت ، ويزرع القمح والشعير، ولا يكترث للمضايقات من المستوطنين وغيرهم و الذين حرقوا أرضه المزروعة بالزيتون أكثر من مرة، ورغم أن بعض المحيطين راحوا يشجعونه على بيع أرضه، وقد التقيته، وفي حديثه غصة، وهو يتمنى لو أن الله أعطاه من يرثها من بعده، ويبدي خوفا من بيعها، وقال لي لو وجدت شخصاً أمينا لورثته من بعدي، ومثل هذه القصة يرفض أبناء عبدالله الحاج حسن بيع أراضيهم واستبدالها، فيفرض الاحتلال مبالغ باهظة، وطالبهم بمليار وأربعمائة وخمسون ألفا، أو فليثبتوا ملكيتهم بالطابو، فردوا أن ملكيتنا نثبتها بزراعة غراس الزيتون، وها نحن ننتج منها 12 تنكت زيت . كان لديهم سند طابو عقوه في كيس بسقف الغرفة، فجاء عميل وسرقه( ) .
شارك بتعليقك