لذلك لم تطل دهشي حين ارتقت بنا السيارة، لاول مرة بعد حرب حزيران، في منعطفات طلعة اللبن اللولبية، قي الطريق من نابلس الى رام الله.
فلتت مني شهقة حين عبرنا المنعطف الاول، وارتج لساني ومقود السيارة في يدي. و هتفت بزملائي الذين كانوا معي في السيارة: عشرين عاما و أنا أحلم بهذه المنعطفات اللولبية. هذه الطلعة لم تغب عن ذاكرتي يوما واحدا. اني أتذكر كل منعطف فيها. هي اربعة فعدوها. و هذه الجبال المشرئبة تحرس السهل الاخضر. هي عشرة فعدوها. و هذا الهواء النقي، هذا الاريج أعرفه. اني استنشق رائحة رافقتي طول العمر. هذا المكان مكاني!.
(فهمت! الآن فهمت لماذا جاء هذا المسكين الي بعد انقطاع عشرين عاما. يالصديق الصبا، كم قسا الدهر علينا! عذرا على شكوكي. و كدت أقوم كي أعانقه. و لكنه لم يمهلني).
فلم ينقطع الاستاذ "م" عن حديثه:
-بعد الحاحي رضي زملائي بأن اوقف السيارة عند المنعطف الاخير، الرابع. و نزلوا معي لنستنشق ذلك الهواء و لنملاء عيوننا بمشهد الجبال و السهل المحروس. و اشجار اللوز تملأ السهل و الجبل، أما كان أجدر بهم ان يسموها منعطفات اللوز؟ و كان شيء في داخلي يدعوني الى السجود. و كان شيء في عيني يذوب دمعا.. و شعرت شعور المشاهد عجيبة تقع أمام ناظريه. و كأني أحيا مرة ثانية سني شبابي الماضية، في مراتع صباي، لا أراها فقط بل أحياها، و استنشق هواءها و أحس بدماء الصبا، مع زائحة الطابون و القطين تجري مشبوبة في عروقي.
و لكن زملائي لم يمهلوني. و سرعان ما أسقطوني من شواهق منعطفاتي الى واقعي في الحضيض. هذا يريد متابعة السفر حالا لان تصاريحنا لا تنص على انه يسمح لنا بالنزول في طلعة اللُبَّن. و هذا يتهكم على ذكرياتي عن هذه الطلعة بأنني في يوم من الايام، قبل عشرين عاما، قد بولت في أحد منعطفاتها. و غير ذلك من الكلام الذي ألفناه نحن الاساتذه حين نبتعد عن طلابنا و عن زوجاتنا.
و ظلت طول الطريق الى رام الله فالقدس فبيت لحم، و في العودة، أهجس بهذا الامر المدهش، و استرحم ذاكراتي ان تستعيد ما وقع لي من أمر، في شبابي، في هذه الطلعة، جعلني أقف مأخوذا أمامها، لا أريد مفارقتها أبدا.
و لكن دون جدوى، حتى وصلنا اليها في العودة فهبطناها دون توقف. فرآني أحد زملائي مهموما. فوضع يده على كتفي مواسيا، و قال: هي شبيهة بطلعة العبهرية، في الطريق من الناصرة الى حيفا، فلعل الامر اختلط عليك.
فرفع حجرا ثقيلا عن صدري.
منذ حوالي عشرين عاما و أنا اسافر الى حيفا مرتين في الاسبوع، حيث أقدم دروسا اضافية في احدى مدارس الثانوية، فأمر بطلعة العبهرية ذهابا وايابا. اقنعني زميلي بهذا التفسير البسيط، مع علمي بانعدام الشبه بين الطلعتين، لانني أعرف سر نفسي وضعفي بقصة المدينتين . لاشك في أن طلعة العبهرية ارتبطت دائما في مخياتي بطلعة اللبّن. قبلت هذا التفسير، و أزحت عبثا ثقيلا عن صدري.
(يا للانسان! أيذبح في ذاكرته ذكريات لا يقوى على احتمالها؟ كنت احسب أن فاقدي الضمير تتحجر قلوبهم، فلا يشعرون بتأنيبه. فاذا الامر مختلف. و اذا الانسان اعجز من أن يقتل ضميره، فيقتل الذاكرة! اذن، لماذا جاء يحدثني بهذه الحكاية؟).
وقال صاحبي القديم:
-تذكر ان لي معارف وأصدقاء عديدين في الضفة الغربية. من ايام الدراسة وفيما بعد. أستاذه و محامون و اطباء ورجال أعمال وسياسون ووزير ومستوزرون. و لقد زرتهم جميعا. ووصلنا ما انقطع من ذكريات ومن صداقة. وعادوا كما كانوا قبل عشرين عاما من حياتي. ولا يمضي أسبوع الا و أزور أحدهم او يزورني. كنت في الماضي توهمت انهم نسوني، واستحوا بي، وانهم قطعونا من شجرة حياتهم كما يقلم الفرع الجاف لتنمو و لتورق.
ولكننا فرع اورقته الحياة.
-صدقت. جئتهم في بادىء الامر متعثرا، غير متأكد من استقبالهم. فوجدت ما لم أكن أتوقعه من حنين الى صداقة قديمة، و من اعتزاز بها. و وجدت أنهم كانوا يتتبعون أخبارنا. و كانوا يلتقطونها من فم الطير. ووجدت انهم يضعوننا أعلى من الموضع الذي وضعنا أنفسنا فيه. وكنت رغبت في أن أخفي عنهم انطوائي في الصدفة عشرين عاما. فاذا بهم يعرفون ذلك ويبررونه على غير ما أرى نفسي. لقد رفعوا من قدري فارتفعت. وشالوني فطالت قامتي، فأصبح رأسي فوق الضربات.
ولذلك قلت لك انهم عادوا جزءا عزيزا من حياتي، تلك التي عرفتها انت قبل عشرين عاما.
-فهل زرتني الليلة بقامتك الطويلة، علنا ؟
-وهل استطيع أن أزورك الا علنا !
-وهل، لهذا، زرتني ؟
-لا. بل لامر يقلقني ويؤرقني. قلت لك ان دهشتي لم تطل حين أهاجتني طلعة اللبن ومنعطفاتها. فقد أعدت شعوري هذا الى تعويذتي التي لازمتني طول حياتي، الى ازدواجية تفكيري ومنطقي، والى اتصالي المستمر بطلعة أخرى، هي طلعة العبهرية.
وصعدت منطفات اللبن وهبطتها عشرات المرات منذ ذلك الوقت. وحين كان الحنين الآسي الغريب اليها يدهمني كنت أعلله حالا وأريح ضميري.
حتى جاء ذلك اليوم من أيام شباط الماضي، حين عدت مع زوجتي وولدي من زيارة أصدقاء لنا في القدس القديمة. وكان الوقت ظهرا حين بدأنا نهبط منطفات اللبن. زكانت براعم اللوز تتفتح. والوانها البيضاء والحمراء تتعانق في نشوة ربيعية رقصت الجبال العشرة كلها.
- بأي لغة نظمت هذه القصيدة ؟
-بلغة عيني وبلغة قلبي. وستسمعني حتى النهاية :
وظلت زوجتي تلح علي بأن اوقف السيارة، حتى نلتقط اغصان لوز منورة تزين بها البيت. ولم أرضخ لطلبها الا في المنعطف الاخير، الادنى، تقوم شجرة لوز عتيقة اعتقد انها كانت موجودة أيضا في أيامي السابقة.
فنزلنا وقطعنا اربعة أغصان ابتسمت لنا وابتسمنا لها.
وحين سألتني زوجتي: هل اذا زرع غصن اللوزفي التراب ينمو شجرة، اقبض صدري وبدأت أتذكر.
هل تذكر انه في مطلع شبابنا كان لنا صديق، احب فتاة من القدس او من بيت لحم، من هناك، وكنا نحب حبه ؟
-كنا أحب، وكنا نحب حبه.
-بلهذا الصديق كان حبه أجمل من حبنا. وكانت له قصة. وكنا في رحلة. ونزلنا أمام تلك الشجرة في باب طلعة اللبن. و كتن هناك بيت. وكان فيه دجاج وابقار. والبيت لا يزال قائما ولكنني لا أرى الدجاج ولا أرى الأبقار. واستسقينا سكانه ماء. واذا بفتيات، في رحلة من القدس، وهن يقطعن اغصان اللوز المنور. وكانت بينهن صاحبة صاحبنا. والتقيا، وناولته غصن لوز منور. وفررن. هل كنت معنا ؟
-وماذا بعد ؟
-اني أذكر عنه قصة جميلة. لا أدري الآن كيف وصلت الي. فصاحبته قطعت فرعا من الغصن وقدمته اليه واستبقت الفرع الآخر. وتعاهدا على ان يحتفظا كل بفرعة، وان يلتقيا في الربيع القادم، حين ينور اللوز، فيأتي بأهله ويخطبها من أهلها. فكيف كانت نهاية قصتهما الجميلة ؟
-وما اهتمامك كل هذا الاهتمام بأمرهما ؟
-لست أدري. ولكنني احسب ان دافعا قويا يدفعني الى ان افتح صفحات صداقتي القديمة، كلها. كأنما أريد ان أشد حاضري الى روابط ماضي، كلها، حتى لا تنفصم أبدا مرة ثانية. كان ذلك الماضي فياضا بالامل. وكان يحتضن الدنيا وما فيها. وكان نقيا مفتوحا كعيني طفل. وكأنني اليوم أريد ان أتعلق بخيوطه حتى انتشل نفسي من هذا الحاضر. فهل تراني غريقا اتعلق بحبال الهواء ؟
-ثم ماذا ؟
-منذ حرب حزيران وانا أتجول كالملهوف بحثا عن الاصدقاء القدامى. وكلما التقيت أحدهم تأججت لهفتي الى لقيا الآخرين. ومنذ ان تذكرت قصة صاحبنا هذا وانا أفتش عليه، وأبحث عنه،فلا يذكر أحد من أصدقائي قصته. وقد أوقعتني هذه اللهفة في مآزق. وكدت أن لا ألقىصديقا من أصدقائي القدامى الا والح عليه بأن يخبرني كيف تعرف على زوجته !
ولم يبق من أصدقاء الصبا من لم أسأله عن صاحبنا هذا سواك. لذلك جئت اليك. فهل تذكره وتريحني ؟
-كنت دائما غريب الاطوار يا صاحبي. ولكنك الليلة أغب ما كنت. فما هذا اللهفة على معرفة أمر جانبي ؟
-تقول: جانبي ! انني أدرك الآن انني ما انطويت في صدفتي، واحدودب ظهري، الا حين قطعت الصلة بماضي. وما هو هذا الماضي؟ ان الماضي ليس زمنا. ان الماضي هو أنت وفلان وفلان وجميع الاصدقاء. سوية رسمنا لوحة هذا الماضي. وكل منا لونها بلونه الخاص حتى جاءت على صورتها الشابة المشتعلة التي عانقت الدنيا وما فيها. ولن أعيد الصلة بهذا الماضي الا اذا تكاملت اجزاء اللوحة بجميع ألوانها. وصاحبنا هذا، بحبه الجميل، أراه الابتسامة في ثغر هذه اللوحة. أي ماض يبقى بدونه. وماذا يبقى من لوحة الجيوكندة اذا مسحت ابتسامتها؟ ان قصته، التي سيكون اللقاء، عودة الحبيب الى حبيبته، خاتمتها المفرحة، والتي سيكون الفراق الزمن خاتمتها المحزنة، أراها أصدق تعبير عن ربيعية ماضينا، الذي أريده أن يعود كما يعود الربيع بعد كل شتاء.
-اراك تعود الى قصة المدينتين، الفرعين، المحب وحبييته، النهاية المفرحة والنهاية المحزنة. أما الحياة فهي ليست خطوطا متمايزة بل هي خطوط متشابكة. فلماذا لا يكون خيالك، الذي أيقضه حنين ربيعي الى جبال شامخة، قد توهم هذه الحكاية؟
-لقد استيقظ خيالي حقا، ولا أريده أن ينام مرة أخرى. لذلك ابحث عن صاحبي هذا. فهل أفهم انك لا تتذكره؟
-دعني أحاول. فاذا تذكرته ابلغتك الامر.
وتركني الاستاذ "م" وهو مهموم كما لم أره مهموما في حياتي. وبقيت مكاني مهموما كما لم أكن مهموما في حياتي. ولعدة دقائق بعد خروجه أمسكت نفسي قسرا عن اللحاق به حتى أهز ذاكرته من موتها.
ولكن، هل استطيع احياء الاموات؟
كيف لا أتذكر قصة الحب الجميلة التي يتلهف الاستاذ "م" على تذكر صاحبها. وكم مرة سألت نفسي: كيف يستطيع انسان ان يقتل في قلبه مثل هذا الحب؟
وبعدحرب حزيران، حين زرت السيدة الكريمة، الوفية، في القدس او في بيت لحم، هناك، على حد تعبير الاستاذ "م”، وأرتني غصن اللوز الجاف،الذي لا تزال تحتفظ به، ويكاد يشتعل بالاحمر وبالابيض حين تستعيد قصته، واخبرتني انه زارها مع عدد من زملائه المعلمين، وكان طول الوقت كثير الكلام وشديد الحبور، وانها أدخلتهم الى مكتبتها ليروا مجموعة الكتب والتحف التي جمعتها، وانه لحظ غصن اللوز الجاف، فسألها ما هو، فأخبرته ان اللوز ينور في شباط، فانتقل يحدثها عن المشمش وعن الجمعة المشمشية، دهشت لهذا الامر أشد دهشة.
ولكنني الآن، وبعد أن زارني الاستاذ "م"، وحدثني بكل ما حدثني به، فهمت كل شيء.
فاني واثق بأن الاستاذ "م" صادق في نسيانه وصادق في لهفتة على ان يتذكر. فبارادة باطنية غربية نسي حقا انه هو نفسه صاحب قصة الحب الجميلة، والابتسامة التي نورت صبانا.
فهل من واجبي انا ان أذكره وأريحه كما طلب مني؟ ولماذا يجب أن أريحه؟ وهل سأريحه حقا؟
اذا كانت قامته قد طالت، كما قال لي، فستطول يده هذه القصة، فيقرأ. فهل حينئذ سيتذكر، فيعيد الروابط بماضيه، فينتشل نفسه من حاضرها؟
وأخيرا نور اللوز، فالتقيا. وكان الربيع يضحك. وكان القدر يقهقه.
شارك بتعليقك