هذه هي قصة المُصعي على لسان راويها السيد نعيم أبو وردة:
صحونا ذات يوم ، والقيامة قايمة،..... المُصَعي، داره جنوب غربي البلد، وقامت الصّيحة أنه أصبح مقتولا وهو نائم باب سقيفته، وراسه مفغور من ضربة فاس في عرق أذنه.
المًصعي أصلا من كفر الديك، وبسبب خلافات مع أقاربه في كفر الديك، يقال أنها حصلت بعد وفاة زوجته أم رجا، هاجر الى رافات واستملك فيها. ومع بداية الهجرة، ستر على مهاجرة وتزوجها من جهة قرى الرملة على ما أعتقد، ممن هاجروا أولا الى رافات، ثم انتقلوا جهات رنتيس، ولكن بقيت عمتها عندها في خشّة قدّ الطابون في ساحة الدار، ولها من الرّزق بقرة تشرب من حليبها. وكان المُصعي قد رزق منها بطفلة اثناء ذلك.
خاتمة أبو جبران من شمال القرية، وعادتها في الربيع أن تسوق بقراتها وجه الصبح على النّدى ليرعين العشب النّدي، فتكسب الخيرين، أكل البقرات وشربهن، وتمرّ عادة من الطريق التي تكون دار المصعي تحتها مباشرة، لتاخذ بقرة عمّة زوجته المهاجرة مع بقراتها.
نزلت خاتمة على سقيفة العمّة، ودقّت على الباب، فخرجت لها، وإذا بقرتها غير موجودة. فقالت لنفسها: يمكن أبو رجا اخذها يراعيها. ولكن خاتمة عند نزولها من الشارع إلى البيت، كانت قد نظرت يسارها فرأت فراش أبو رجا مكبوب حوله سائل مطبّع، فاعتقدت أنه قد توضأ وصلّى وأخذ غفوة، فأخبرت عمّة زوجته بذلك.
شوية وبدأ النور يشقشق، وبدأ لون السائل يظهر شيئا فشيئا، فقامت الامرأتان نحوه، ولما وصلتاه، رأتا العجب العجاب والأمر الذي يطير له الصواب، إذ رأتا رأسه من عند عرق أذنه مفغور، ودمه مغطّي قاع الدار، فصاحتا ودبّتا الصوت، فهجم رجال البلد ونسوانها للاطلاع.
خاتمة تطربلت، لم تعد تقوى على القيام فجلست تصرخ وتصيح. كان من المألوف في تلك الفترة، أن يقوم بعض مسلّحي اليهود، أو بعض العرب الذين بقوا في البلاد، بغزو القرى الأمامية والقيام بالقتل وسرقة الحلال بسبب شحّ اللحوم في فلسطين المحتلّة. ولذلك طلعت أول إشاعة أن اليهود جاءوا الى البلد وقتها وأخذوا البقرة.
جاءت أخبار من أهل البلد القاطنين شرقها، أن جماعات من رجال كفر الديك بدأوا يتجمعون جهة تينات السرّي باتجاه رافات من شرق البلد، فقام عثمان أبو جبران، مختار الحارة الغربية التي صارت فيها الجريمة، بإرسال ركيض الى مخفر دير بلوط ليأتي الفرسان للتحقيق في الحادث. الحاج أحمد أبو جبران، وكان على ما أعتقد قد جاوز الثمانين أو ربما التسعين، والذي كان ضابطا في الحيش التركي، استغرب رواية توافد وتجمهر رجال كفر الديك شرق البلد، فهذا ما لم يحدث في السابق أبدا.
وصل الفرسان ، وأرسلوا من يخبر أهل كفر الديك المتوجهين الى رافات، أنه ممنوع عليهم ان يتقدموا غرب القطاع (وهي قطعة ارض شرق البلد) حتى تسمح لهم الدولة (أي الفرسان) بذلك. وأفرزوا بعض شباب البلد على جنب، والكل جالسين تحت التوتة، وطلبوا من بعض الشباب قطع شوية مطارق توت ليبدأوا بالضرب أملا في اعتراف بعضهم بتنفيذ الجريمة.
مع الارتباك الحاصل، لم يفطن أحد إلى أن إبن القتيل غير موجود مع الناس، فأخبر الحاج أحمد الفرسان أن يبعثوا من يبحث عنه ويخبره فيحضره. وكان ذلك. فدخل رجا الى الجمهرة، وسال عن الأمر، فاخبروه أن أباه مات مقتولا بضربة رأس في عرق أذنه، وأن اليهود أخذوا البقرة وغربوا.
رجا، شاكل ديمايته بطرف حزامه، وسرواله مبين ، فقام الحاج أحمد وطلب من مسؤول الفرسان إما أن يسمح له بالاقتراب من رجا، أو يحضر رجا لعنده، ليعزيّه ويشدّ من أزره ، لأن هذه هي العوايد. فاستجاب رئيس الفرسان وأحضر رجا، الذي حاول أن يجلس، فنفاه الحاج أحمد، وطلب منه أن يظل واقفا، ورجل الفرسان ماسك رجا، فمال عليه الحاج أحمد وقال له: الرجل الذي بيدك هو الذي قتل أباه. فسأله رجل الفرسان، وما دليلك؟ فقال أنظر الى مقدمة سرواله، والبقع التي عليها، وبقايا نتف متطايرة ولاصقة بها، فان هذه من أجزاء المخ وليست من الحليب أو اللبن أو الإنزال، وأنا كنت في الجيش التركي أثناء الحرب الأولى وأعرف ما أقول. ولا أسهل من ان تستعملوا مطارق التوت عليه فترة حتى يعترف.
أشار الضابط لأحد الفرسان أن يبدأ بالضرب، فما مرّت بضع دقائق حتى صرخ رجا معترفا بقتل أبيه بناء على تحريض من أقاربه في كفر الديك الذين أفهموه أن الجناية ستسجّل في النّهاية ضدّ مجهول، وأن زوجة أبيه المهاجرة وبنتها ستلحق بأهلها جهة رام الله، وتبقى كامل الورثة له لوحده لا ينازعه فيها أحد.
طبعا ما أن سمع أهل كفر الديك المتحفزين للثأر والسلب والنهب ... الخ.. وخلط الزبدة بالسمقة والتعفيس الذي ليس فوقه تعفيس بما جرى, حتى داروا وجوههم شرقا وذابوا.
دارت الايام ،وعمّة الزوجة رحلت من رافات والتحقت بأقاربها في الجنوب.
على كل حال، ذهب رجا الى الحبس، ولأنه قاصر، سمعت بعد سنوات أنه تم الإفراج عنه بعد أن أنهى محبوسيته، وذهب الى بلاد أمريكا الجنوبية حيث بقي هناك عقودا من الزمن، ثم سمعت مؤخرا أنه عاد الى البلد.
شارك بتعليقك