فلسطين في الذاكرة من نحن تاريخ شفوي نهب فلسطين English
القائمة الصراع للمبتدئين دليل العودة صور  خرائط 
فلسطين في الذاكرة سجل تبرع أفلام نهب فلسطين إبحث  بيت كل الفلسطينيين على الإنترنت English
من نحن الصراع للمبتدئين    صور     خرائط  دليل حق العودة تاريخ شفوي نظرة القمر الصناعي أعضاء الموقع إتصل بنا

طولكرم: “أحمد شاكر الكرمي: مختارات من آثاره الأدبية والنقدية والقصصية”، قدم له فؤاد الشايب …… أرشيف م. سليم هاني الكرمي

مشاركة م. سليم هاني الكرمي في تاريخ 5 كانون ثاني، 2023

صورة لمدينة طولكرم: : خارطة مجموعة قرى الشعراوية 1920م اعداد ناجي عوض أنقر الصورة للمزيد من المعلومات عن البلدة
“أحمد شاكر الكرمي: مختارات من آثاره الأدبية والنقدية والقصصية”، قدم له فؤاد الشايب …… أرشيف م. سليم هاني الكرمي

{ { أصدرت وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية عام 1964 كتابًا عن أحمد شاكر بعنوان “أحمد شاكر الكرمي: مختارات من آثاره الأدبية والنقدية والقصصية”، قدم له فؤاد الشايب ؛ جمعه وأشرف على طبعه عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)،
وقد قسم أبو سلمى آثار أخيه أحمد شاكر إلى الأقسام السبعة الآتية: مفكرة المحرر، وآراء أحمد شاكر الكرمي، والمعرض العام، والنقد، والشعر الغربي، والقصص، وأقوال ورسائل.
وقد بلغت عدد صفحات الكتاب 300 صفحة، وصدر عن دار أطلس للنشر،
وهو كتاب شهير ومنتشر في المكتبات العامة بالوطن العربي.}}

مقدمة
يسمي المؤرخ « توينبي « تلك الحضارات التي تولد من التشاد والتمزق ومن النزاع الطويل بين الاستقرار والغزو العنيف ، بأنها تولد على الحدود . فاذا جاز لنا بعض الجواز أن نشبه الافراد بالمجتمعات ، لا سيما اذا كان الانسان الفرد قد انطوى جرمه الصغير على عالم أكبر ، فان أحمد شاكر الكرمي أحد اولئك الذين ولدوا على الحدود ، في مهب الرياح ،ومنجرف السيول ، ومصطرع الاهوال ، حيث لا مقر لمهد ، ولا مطرح لنمو ، ولا أجواء لدفء وعافية . وان شيئا ينمو ثم يزكو ؛ ويزهر ثم يثمر فوق ذلك السطح السديمي والتراب المنهار ؛ أن يكون نبتا نادرا وخلقا عجيبا .

عندما كان الجراد العثماني ، مع الحرب العالمية الاولى يعرق ما تبقى من رمق البلاد ودمائها ، أخضر فيابسا ، وعندما كان العربي يلهث اعياء وهوانا في آخر صعدة الجلجلة ، وقد حمل الحرب بعد الظلم على كتفيه ، وبينما الباب العالي تصطك عمده الشامخة والهول يجري في سدف الظلام دما أحمر ، فما تدري أفجر هو أم حشر ، كان شباب الكرمي يتعلق بالحياة في العباب المستطير ، ملء شراعه الطموح وملء بصره صورة أمته ومستقبلها. وعندما رست مأساة الحرب على الشاطيء العربي وكان مملوءا حطاما وركاما ، وطفقت الحياة العربية تتثاءب فتتحرك ، كان أحمد شاكر الكرمي بين شتى الشواهد والادلة ؛ شاهدا على وجود الحياة ودليلا على النبض المنتظم فيها .

ومثلما عاش الكرمي على حدود الصراع بين تكوينة الامبراطورية الخرافية ، والدفق العربي الجديد، كذلك فقد عاش ضمن المجموعة العربية يومئذ ، على حدودها ، طائرا متنقلا ، لا يكاد يحط على موقع حتى يقلع منه الى آخر شأنه شأن تلك الطيور الجريئة الاجنحة التي تخوض الاعاصير وهي تفتش عن المناخ ، والصحو ، والافق المفتوح .

قد يقول دارسو حياته أنه قد اختار الشام ودمشقها لان والده المرحوم الشيخ سعيد الكرمي كان مقيما فيها (كان المرحوم الشيخ سعيد الكرمي من رجالات العرب الذين حكمت عليهم محاكم جمال باشا بالاعدام ثم استبدل الحكم بالسجن نظرا لكبر سنه . وقد سجن في قلعة دمشق ثم غادرها اثر انتهاء الحرب الى طولكرم في فلسطين وعاد الاقامة فى دمشق حيث وافاه ولده أحمد شاكر في مطلع عام ۱۹۲۰ .) وأقول بما توحي لي سيرة هذه الحياة القصيرة ، أن شاكرا لم يختر دمشق لان والده مقيم فيها، بل قد اختار الاقامة بجانب والده لانه كان في دمشق . و كانت دمشق فيها يومئذ وبالرغم من أن غربان الانتداب قد سارعت الى الجثوم عليها ، تمثل للطيور الشاردة وطنا للعروبة يصح أن يكون لها مناخ حياة، وافق مستقبل ومسرح حركة ونضال. لكأننا بالكرمي الشاب يعيش بحكم المصادفة أو الحاجة في كل دار من ديار العرب ، الا دمشق ، فقد حط فيها وعاش بحكم الارادة والاختيار والهوى . فهو في فلسطين بحكم المولد وفي مصر مع الازهر ، وفي الحجاز شمام عرار ، ورفيق طريق . أما دمشق التي منحها من حياته كل بقيتها وهي سبعة أعوام ، بكل عزها ورونقها ، فقد كان من الواضح منذ اليوم الذي حل فيها أنه لن يبارحها الى الابد. ويا للخيبة ! ما كان أدنى ذلك الابد . وما كان أقرب ميعاده !

ولو ان هذا الابد منحه من الاجل سبعة عشر عاما أو سبعة وعشرين ، بدل سبعة ، لكان اقترن تاريخ الحركة الفكرية بتاريخ قمة من قمم الفكر العربي في القرن العشرين ولكنا رأينا في بستانه من ثمار الادب والفكر ما لا نجد مثله في بساتين أقرانه وزملائه ومعاصريه ممن لا يزالون أحياء بيننا أو أحياء عند ربهم يرزقون .

عربي النفس والطيب ، أزهري الدراسة والتربية ، انساني الثقافة والشوق ، بما تيسر له من اطلاع على الادب الغربي عن طريق اتقانه اللغة الانكليزية ، هذه ملامح الصورة الأدبية التي صعدت حولها أنظار الدمشقيين وعلقت بها عام ألف وتسعماية وعشرين ، عندما حط على دوحتهم هذا الطائر العربي النادر ، صاحب الجناحين الملونين والمنقار الكاسر..
لم يكن فلسطينيا ، ولا حجازيا، ولا مصريا ، ولا شاميا هذا الفتى العربي الجريء الذي ما لبث أن تصدر صحن الدار الشامية وكأنه ولد فيها مع ليمونتها ، أو نقش كبيت شعر على صدر قاعتها . انه ليس من أحد بطون القبائل التي نزل في خيامها ولا من أفخاذها وليس فيه الطابع المحمول عادة من لهجاتها وسماتها. ولكنه ، في الوقت نفسه ،كان شيئا من مجموعها كلها ، منخولا مذوبا ، مخفوقا ، عربيا دون شنشنة ودون لكنة ودون نعرة . كأنه نبعة صفتها أعماق الرمال فحملت ما طاب لها من معادن مكونة للجوهر ، ونبذت ما دونها من عناصر تلوث براءتها ونقاءها . أو كأنه على الحدود التي طوف حولها وتنقل بينها من عل ، قد رسم حدود ذاته فاذا بها ذات عربية غير محدودة ، ولا ملتزمة ، ولا منتسبة الا للدوحة الام ، حيث الأصل الذي تتحدر منه الفروع وتعود اليه . ولقد أحبه الناس في الشام من أجل هذا ، من أجل أنه عربي خالص العروبة ، وقد ند عنها أدبه الحي الجريء كما يند العود عن طيب عرقه طريا ومحترقا.

** **

في الخامسة والعشرين من عمره ، عام ألف وتسعماية وواحد وعشرين، ولما يمر عام واحد على مقامه في دمشق ، كان يملأ الحياة الادبية في المدينة ، ويشغل محافلها ويظهر في كل مكان من صحافتها ، مرة باسمه الصريح ومرة باسم مستعار. وكان يؤثر أن يتوارى وراء حروف رموزه منذ عام الف وتسعماية وثمانية عشر ، في صحف مصر، ثم في الحجاز ، ثم في دمشق حيث بدأ ينشر مقالاته الادبية والاجتماعية في جريدة ( ألف باء ) بتوقيع ( قدامة ) ، وقد ساهم في تكوين أول هيئة أدبية في سورية باسم ( الرابطة الادبية ) وفي تحرير مجلتها التي حملت اسمها فكان محور نشاطها ونجم صفحاتها ، ثم تولى تحرير مجلة ( الفيحاء ) عام ۱۹۲۳ وأخيرا انشأ مجلته ( الميزان ) فعاشت عامي ۱۹۲۵ - ١٩٢٦ وكان يتصل خلال كل هذا ، بادباء العرب في مصر والمهاجر ، ویراسلهم ویراسلونه ، فاستطاع ان يجعل من دمشق قبلة الانظار العربية ، بالاخص عندما أنشأ الميزان التي برع في تحريرها صحافيا دؤوبا ، وأديبا ناقدا ، ومترجما مجددا ، وباحثا اجتماعيا. وما ان تحتجب الميزان عام ۱۹۲۷ حتى تحجب الشام من جديد غمامة من ظلام ، وتنطفيء شعلة النشاط الادبي بغتة وكانت قد تجاوزت حدود البلاد الى ديار العرب ومساكنهم خلال فترة قصيرة من الزمن حقا ، ولكنها ستبقى في سجل حياتنا الادبية حدثا من أحداث التاريخ يرتبط ارتباطا كليا و شخصيا بحياة أحمد شاكر الكرمي .. مثل مرور الشهب المحترقة كان ظهوره في سماء العرب واختفاؤه.

ليست هذه الكلمات أسوقها على هامش أوراق الكرمي دراسة لادبه بل كل ما توخيت منها ، أن تكون تحية ، لا سيما وان تكليفي بها من قبل وزارة الثقافة والارشاد القومي، ومن أهله وأخيه الصديق الاستاذ عبد الكريم الكرمي - أبو سلمى - كان بسبب أن أحببت الرجل دون أن أعرفه أو أراه أو أدرك زمانه . وكنت بعد أن اكتشفته لنفسي منذ عام ١٩٣٥ في مجلة
الميزان ، اردد اسمه ، واهتف بذكره في كل محفل وناد وأقول ان حلقة مفقودة في تاريخ حياتنا الفكرية يجب أن تخرج للنور وتوضع بين أيدي قراء العربية لا سيما اذا كانت كنجمة الصبح في مشرق حياة العرب الجديدة : بل أقول ان النجمة هذه قد طلعت مبكرة في ليل وغربت مبكرة في ليل ، وكان الاشراق حدثا خارقا.

على أنه لا غنى لي عن ان أضمن التحية بعض الرأي في تكوين تلك الشخصية الادبية الغنية التي كانت بحق نموذجا للعربي المثقف يقتدى به على وينسج على طرازه.

أحسب ان أول ما يلوح ببيان مشرق أمام القاريء وهو مع هذه الاوراق المجموعة ، هو شخصية الرجل المثقف ، قبل حرفية النصوص الانشائية . أي أن ما سيعنيك منه هو الانسان قبل الحرف ، مهما يكن من أمر الحرف في تعبيره عن كاتبه . ولعل القاريء سيبادر الى الحكم بأن هذه الشخصية المثقفة انما تتميز بقدرة بارعة على اقامة التوازن بين ثقافتين، ثقافة التراث العربي ، وثقافة العصر الحديث. ولا يظهر هذا التمازج المتوازن في مجالات كثيرة يستشهد الكاتب فيها بالمراجع العربية وبأقوال مشاهيرها، وبالموسوعات الاجنبية وباعلام الشعر والنقد في أوربا ، فحسب، بل هو أكثر ظهورا في الآراء والاحكام التي يلقيها حول قضايا فكرية واجتماعية ، يحسب القاريء لأول وهلة انها أحكام متناقضة ، تصدر عن ذهنية مضطربة ، بينما هي تمثل بكل صفاء قدرة الكاتب على تمثل ثقافته ، وتمكنه کشف من دستور لها يمنحه الحق في الحكم ، على أساس من تحقيق التوازن واقامة العدل ، ودفع الشطط وتجنب المزالق والعصبيات التي تنشأ عادة من نقص ثقافي ، أو من نمو جانب وضمور جانب آخر ، من جوانب الثقافة المحدودة .

فبينما هو يقرع أولئك الذين ينتسبون للغة العربية ويفاخرون بامتلاك مفرداتها ومترادفاتها - وكان ذلك شائعا في زمانه - من غير المام بفنون التصرف بها ، جازما بالتأكيد ان امتلاك اللغة لا يجعل من مالكها كاتبا ولا شاعرا مثلما ان الذهب لا يجعل مالكه صائغا، كذلك لا يهمل أولئك المجددين الأدعياء الذين يسمون أنفسهم بلغة الزمان ( متمردين ) عندما يهملون قواعد اللغة وعلوم البلاغة ومقرراتها ، ويدمغهم بأنهم جهال وقحون ،يضحون باللغة في سبيل ما يزعمون أنه المعاني فتفوتهم والمعاني .

كذلك قد شبه الذين يحافظون على القالب الشعري وزنا وقافية دون موهبة شعرية باولئك الذين يملكون قوالب سك النقود وليس لديهم من معدن سوى النحاس . وان هؤلا لقادرون أن يعطونا عملة لها نقش الدينار وحجمه وشكله، ولكن ليس لها قيمته وبهاؤه.

على أنه عندما يقع على تاريخ الادب العربي للمرحوم جرجي زيدان ويقرأ فيه أن المؤلف يميل الى الحكم بأن الشعر ليس من الضروري ان يكون موزونا مقفى بدليل ما جاء في كلام بعض العرب - من ان الشعر شيء تجیش به صدورنا فتقذفه على السنتنا -يجيب الكرمي ساخرا وهل معنى ذلك ان الصدور تقذفه بلا وزن ولا قافية ..

لقد جهر الكرمي بارائه ضد الجمود والتقاليد واللغة البكماء وأدب الرمم البالية والعظام النخرة - كما يقول - واذ يلتقي بجماعة المتمردين ، يحملون معاول التهديم ، ويوهمون أن كل ما في التراث حقيق بالهدم ، وأن التجديد ليس الا خبطا وتخريبا، فهو يقف دونهم وقد ثارت حميته ضد الهدم ، ليس لانه لا يشرعه ، بل لان المتنطع له يجب أن يكون على مستوى جدير بالعمل الخطير . ولعل أول ما يجب ان يتصف به الهدامون انهم على جانب من ( المحصول العلمي والرأي الناضج والذوق السليم ) لان الهدم عمل خبرة ، مثلما أن البناء عمل خبرة، ولا يقوم بهذا او ذاك الا كل عالم مشهود له بأنه صاحب رأي وذوق.

فاذا ما اتضحت لنا شخصية العربي المثقف الموزون في مواقفه هذه تهيا لنا أن نعلم بأن الكرمي الناقد، قد خرج من اهاب الكرمي المثقف. ولعل أبرز صفات سمات الاديب فيه أنه ناقد، في المجالين الادبي والاجتماعي.

أقول أن نقده قد صدر عن ثقافته التي توازت فيها بعدل ، كفتا التليد والطريف ، لاقرر للكرمي فضلا آخر هو أن نقده لم يصدر عن حقد او مركب نقص ولا عن طموح محتدم وغريزة قتال ، مما كان في زمن الكرمي طرازا أدبيا شائعا يلجأ اليه أدباء الشباب ليتسلقوا على جذوع الادباء الشيوخ ويبلغوا ميدان الشهرة مبكرين. بل قد تميز الكرمي في كل ما نقد ومن نقد ، بأنه نزه نفسه عن صغائر عصره ممن شرعوا السفود لشواء لحم الآدميين أحياء ، فنجت له بين الناس سمعة مشرقة وثقافة بارة.

وسيرى القاري العربي في صفحات نقده وفي نظرته إلى النقد كعمل ادبی ، اصلاحی و ثوري، انه ما نقد ليبخس الناس أشياءهم ويحط من اقدارهم، ويتسلق على جدوعهم، وكثيرا ما ذكرهم بفضائلهم قبل مثاليهم. و كانت جراته على نفسه لا تقل وزنا عن جرأته على سواه. فهو اذ ينفد المهجربين - مثلا - يريد ان يكونوا أكثر احتراما للغة عروبتهم ، وأوسع عنابة بثقافتهم من تراثهم، وهو لا يعنفهم ويهزئهم، كما فعل بعض أهل زمانه ، وعندما يذكر أيديهم في حلبات التجديد نراه يردد نغمات مزاميرهم، و هو يفاخر بهم ويهتز طربا.
ثم اذ هو ينقد وينقد، ويمضي في النقد المر ، والمر في شرعه طب، يلتقي بنفسه فلا يوفرها، وبنقائصه فلا يشيح عنها، ولا يجنبها الطب المر ، بل لا يحسب الا انها قبل سواها من حق جمهوره عليه ، وانه ليذكر على نفسه عيبين قبيحين - كما يقول - الملل من المتابعة ، والنظر إلى المباحث نظرة سطحية : " عيبان اذا لم أجتهد في التغلب عليهما والتخلص منهما فعلى مستقبلي الادبي السلام . "
عجبا لامره، ثم لا عجب . ان الكرمي لذو طينة نادرة بين أهل زمانه ممن سبقوه وعاصروه او ممن سيأتون بعده أيضا . فكم من المثقفين يقبل أن يواجه نفسه و يحاسبها سرا حتى يستطيع أن يجرها الى الشارع ويعنفها علنا ! بل كم من الأدباء ورجال الفن من لا يعشق ذاته ، ويخضع حكمه على أثره لهوی نرسیسیته !!

وهنا يبدو ، ان وجها ثالثا يطل علينا بعد وجــه الإنسان المثقف ، ووجه الاديب الناقد ، هو وجه العربي المهذب . ومثلما أن التهذيب ليس فجورا وشططا ، فهو ليس صمتا على الباطل ولا رياء له ولا تهيبا منه ، فقد كان الكرمي بما عرفنا من أدبه وبما عرفه معاصروه من حياته نموذج العربي المهذب الذي قومته ثقافته وعدلته، كما حضرت فكره وذوقه معا ، وجعلت من شخصه نموذجا للرجل العصري الراقي، في وسط وزمن يعز امثاله ويفتقدون.

***

فاذا كان دور الكرمي المترجم، وبين أيدينا الآن نماذج من ترجماته الكثيرة التي لم تتسع لها هذه المجموعة، فاننا امام أديب ذواقة ، ورائد طلعة ، عرف كيف يدخل باللغة الانكليزية التي تلقفها بينما هو يتنقل، وغذاها بينما هو يطالع ، وعلم بها بينما هو يتعلم منها ، الى أروقة الادب العالمي، انكليزيا وفرنسيا وألمانيا وروسيا. وها هو يشرك قراء في متع اكتشافها وتذوقها في جميع الصحف العربية التي حررها، وآخرها الميزان، فيفتح في تلك الفترة المظلمة ، المخنوقة التيارات، المحدودة الافاق منذ عام ۱۹۲۰ نوافذ الهواء والشمس على قاعات القراءة العربية، وياخذ بيد جمهوره نحو دنى جديدة تضج بالانغام، وتتموج بالألوان. يتعرف بها إلى صفحات خالدة من أدب المشاهير العالميين الذين ما لبثوا ان انزووا في الظلام ثانية بعد انطفاء الكرمي عام ۱۹۲۷ وكان على الجمهور العربي في هذه البلاد أن ينتظر ربع قرن أو أكثر بعد الكرمي ليعود فيقرأ باللغة العربية موباسان، و تشيكوف واوسكار وايلد، وشلي و بر ناردان دوستان بيير و تولستوي ومارك توين وسواهم من شعراء وروائيين.

ولست اغرق في كيل الاطراء للكرمي المترجم أو اصدر في تقييم ترجماته عن عاطفتي نحوه، او اتجنى على زملائه ومعاصريه ممن ترجموا في تلك الايام ، او كانوا قد سبقوه الى النقل والترجمة اذا جزمت بانه كان أكثرهم أمانة، وأحرصهم على وفاء حق المترجم عنه من العناية والرحمة ، وفاء أديب لاديب ومحسن اليه لصاحب يد واحسان . وان لم يكن أقدرهم على تفهم اسرار اللغة الاجنبية ، فهو أقدرهم على تطويع اللغة العربية وترويضها للتقبل والتلقي . وسواء أأتيح لقاريء ما أن يقارن بين الترجمة الكرمية وأصلها الاحنبي ، أو لم يتح له ذلك، فانه لا بد لامس أن المترجم لا يزوق ولا يزور ، كما أنه لا ينقل نقلا حرفيا يجعل النص العربي بحاجة الى ترجمة عربية . فهو قد خلص من تقعر المرحوم خليل مطران مثلا في ترجمته شكسبير، كما خلص من تزوير الاصل حتى التشويه على طريقة المرحوم طانيوس عبده، ومن التزويق مع التزوير بناء على تصور وتصميم على طريقة المرحوم المنفلوطي ، وقد نقد الكرمي بعض ترجمات زمانه كما سيرى القاريء ، فدل على مذهبه في الترجمة في أنه لا يبتغي فيما ينقل الى العربية تملق الجماهير بالركاكة العامية ولا اصطناع التشامخ والشموخ ليقال مثلا ان الترجمة بليغة كالاصل او ان المترجم أقدر من المؤلف ، فعصم بذلك نفسه عن أن يكون بياع دمى ولطائف مصورة ، كما قد عصم نفسه في الوقت نفسه عن نزوة الترفع والتميز واستزلام الثقافة اذا صح التعبير .

وهنا ، مع المترجم نلتقي ايضا مع المثقف العادل المعتدل ، ومع الانسان الامين، ومع الاديب المهذب الفطرة، حيث الادب ليس لهوا ، ولا سلعة ، ولا مسح کاهن ، ولا بخور مذابح مقدسة ، ولا الغاز كلمات متقاطعة .. بل حيث الادب لا يدل على ذوق رفيع ومعرفة واسعة فحسب ، بل على توافر عناصر التكون الحضاري في شخص الاديب وذات المثقف .
ولا بد أن يلاحظ القاريء بأن المرحوم الكرمي عاش أياما كان جمهور المتعلمين واصحاب الوجاهات العلمية فيها يظن أن في الترجمة عن اللغات الاجنبية افتئاتا على العربية، واحتقارا للترات او تبعيدا عنه، فكان على الكرمي ان بيدأ من ألف باء المنطق الثقافي ليبرهن لابناء عصره أن الترجمة ليست بصائرة ادابنا ولا بواضعة من قدرها، فهذا (شوسر ) ابو الشعر الانكليزي يشتهر في بلاده بحذقه اللغة الايطالية وتعرفه عن طريقها بشاعريها العظيمين دانتي وبيترازك، مما ساعده من بعد على اصلاح الشـعر الانكليزي نفسه و تنقيته من وحشيته العتيقة.

من هذا وسواه، ستتضح للقاري العربي أيضا شخصية الاديب صاحب الرسالة الاجتماعية. اذ كثيرا ما كان النقد الأدبي لدى الناقد الكر مي ذا مرمى اجتماعي اصلاحي، وفكري انقلابي ، يتناول عن طريق الادب واعتباراته حالات المجتمع وحاجاته، وتقاليده ومالوفاته في مرحلة من التاريخ كان الفكر العربي لا يزال مشتبكا فيها بعوسجة التخوم ، مضطرباً، ممزقا ، حائرا ... كما كانت الترجمة عنده سبيلا إلى نقل الآثار الادبية الهادفة ، التي لا تخلو من رمز جميل ، أو عبرة، أو حكمة ، بالاضافة الى اصطفاء بردتها الجمالية الرفيعة.

فاذا اضفنا إلى هذا كله قلق روحه المتوفزة المفتوحة على الدنيا عيونا، وتفرع أدبه وانتشاره الى أكثر من غرض واحد، وأفق واحد ، وطموحه الى تعمیق معارفه والابتعاد بها عن الشاطيء الضحل ، الى الغور العميق ، وما يرافق هذا الطموح من حرص على محاسبة النفس وتبكيتها ، والتشهير يمللها وتمرغها بالسطحية ، وما ذلك الا اعدادا لها لانطلاق جديد . و تمريسا لها بالتبعات ذات النداءات العميقة التي يصيخ لها كل صاحب فكر وقلم ووجدان، نقول اذا أضفنا هذا كله الى ما عرفنا من صفات المثقف الطموح الجريء، حق لنا أن نحكم بأن ذاك النجم المتوقد كان في دور التكوين الذاتي عندما أدركه الاحتراق ، وانه قد انطفا يوم كان أكثر وعدا بالاشتعال وأصدق عزما . لقد تسلل السل اللثيم الى رئتيه، بينما كان قلبه الكبير غير بعيد عن منطقة الاحتراق في شغل شاغل عما في جواره : يثبت شراعه ، ويصلح شباكه، ويتأمل في أبعد الابعاد : المستقبل.

وفي المستقبل كان الكرمي يقول وهو على شاطي ارتحاله واكتماله :
عيبان قبيحان : الملل من المتابعة، والنظرة السطحية - اذا لم اجتهد في التغلب عليهما والتخلص منهما فعلى مستقبلي الادبي السلام !

فالمستقبل الذي كان يضع قدمه على شاطئه ، لم يكن عالم مغامرة أو نبوءة عراف، انه مرسوم بوضوح في لوحة ذكائه وصفائه : بالدأب ، بالصبر ، بالتغلب على العيوب . انه ليس تسللا في ظلام ، واغتصابا لثمرة محرمة ، بل السير على هدى، والظفر بالثمرة الحلال في جنة وارفة الظلال. ولم يكن الكرمي الشاب يحلم بها حلما بل كان يعمل من أجل بلوغها عملا صادقا ، كله عنف وعرق وترويض ، وانقطاع للكتاب وزهد بكل ما عداه .

.. وأنت وأنا ، عندما نقرأ في هذه الاوراق التي تركها لنا الكرمي نحس بقوتها وتدفقها وهديرها ، وبأن أجمل ما فيها ، وعدها ؛ وأبلغ ما أتى فيها وورد ؛ ما سيأتي بعدها ويرد ، مملوءة بالبراعم ملقحة بالخصب ، كأن السنوات العشر الاخيرة من عمره ، لم تكن سوى المدخل الضيق الى حياته العريضة التي لو مكنه منها القدر الظالم ؛ وعاش الى الستين أو السبعين ، مثلما عاش من سبقه وعاصره من الكتاب والمثقفين ، لخلق لنا أكثر من ثمانين كتابا ، أو أكبر من ثروة تحصر وتقيم بعدد الكتب والمؤلفات..

****
وقف أحمد شاكر الكرمي خطيبا على مسرح زهرة دمشق ، في حفلة أقامتها ( الرابطة الادبية ) يوم السادس عشر من كانون الأول عام ۱۹۲۱ وكان يتكلم متفائلا عن قدوم الفجر العربي ، وظهور نجمة الصبح ، مقدمة لانوار الصباح ، ويتحدث باسم المسافر المستبشر يخاطب الكوكب المنير هكذا :
... وغدا متى جلس ابن النور على عرش الزمان
وقرعت أجراس الدهر ، مؤذنة بانقضاء الليل،
وشروق شمس نهار جديد، يشيد أبنائي المخلصون
هيكلا لك يمجدون فيه اسمك ، ويسبحون بحمدك ..

قال هذا منذ ثلاثة وأربعين عاما ، ولم يكن يدري ، انه هو الكوكب المنير الذي يخاطبه المسافر المستبشر ؛ وأنه نفسه كان شارة الاشراق ودليل الفجر . كذلك لم يكن يدري أنه كوكب الصباح الذي لم يكتب له أن يلتقي بالصباح ، وانه مثلما أتى في ليل سيذهب في ليل أيضا.

واما أن يمجده الابناء ويسبحوا بحمده ، هذا الكوكب الذي مسحته من صفحتها سماء لا ترحم ، فحسب هذه الاوراق المجموعة شرفا انها رد للتحية على من ألقى التحية ذات يوم وولى ، حسبها أنها غصن أخضر يوضع على ترابه الجاف ، وقبره المجهول، رمزا لخضرة شبابه الخالد.


دمشق أيار عام ١٩٦٤

فؤاد الشايب



إذا كنت مؤلف هذه  مقال وأردت تحديث المعلومات، انقر على ازر التالي:

ملاحظة

مضمون المقالات، المقابلات، أو الافلام يعبر عن الرأي الشخصي لمؤلفها وفلسطين في الذاكرة غير مسؤولة عن هذه الآراء. بقدر الامكان تحاول فلسطين في الذاكرة التدقيق في صحة المعلومات ولكن لا تضمن صحتها.

 

شارك بتعليقك

 
American Indian Freedom Dance With a Palestinian


الجديد في الموقع