طبقة الفهماء بقلم حسن الكرمي من « العروة الوثقى » في لندن مجلة الاديب ديسمبر 1963…أرشيف م. سليم هاني الكرمي
طبقة الفهماء
بقلم حسن الكرمي من « العروة الوثقى » في لندن
مجلة الاديب - ديسمبر 1963_ الجزء 12_ السنة 22 _ المجلد 44
https://archive.alsharekh.org/Articles/144/14690/329617
العروة الوثقى: استطاع حسن سعيد الكرمي مع صديقيه فؤاد جبور حداد وسعيد جريس العيسى أن يشكلوا نواة جمعية "العروة الوثقى" الأدبية الفلسطينية في لندن. وهو اسم مأخوذ من آية قرآنية (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم). وهو مصطلح يعني الوحدة والتمسك بالمبادئ، استخدمه الشيخ جمال الدين الأفغاني وغيره. إلا أن الاقتباس الأرجح كان من مجلة "العروة الوثقى" التي ترأس تحريرها الشاعر سعيد العيسى عندما كان طالباً في الجامعة الأمريكية.
جمع الثلاثةَ الذين شكلوا هذه الجمعية حبُّ الأندلس والتاريخُ العربي فيها، والألم على ضياعها، واستشعارهم ضياع فلسطين بنفس الطريقة. وتوسعت هذه الجمعية بين الأدباء في العاصمة البريطانية.. غير أن المعلومات عنها شحيحة، ولم يكتب عنها أحد بالتفصيل سوى بعض القصص هنا وهناك.
غير أن وجود عدد من الكتاب والشعراء في لندن وعملهم المباشر في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، أو ما كان يُعرف أيامها باسم "إذاعة لندن" كان له تأثير إيجابي في الاطلاع على ثقافاتهم من داخل بلادهم، وإرسال المقالات من هناك إلى الصحف العربية.
وسجلت هذه الجمعية اتجاهاً قومياً عربياً في وسط لندن (ركزوا في جانب مهم من إنتاجهم على الأندلس وحضارتها)، حتى شك البعض بأن أحد أقطابها، وهو الشاعر سعيد جريس العيسى مسلم الديانة وليس مسيحي
طبقة الفهماء
ذكرت في المقال السابق أن الثقافة الغربية تقوم على ثلاثة اسس : ١ ) التراث الاغريقي و ٢ ) التراث الروماني و ٣ ) التراث المسيحي . واحسب ان القارىء الكريم قد لاحظ انني اضربت عن استعمال كلمة ( مدنية ) واخترت كلمة ( ثقافة) بدلا منها . ولعله يتساءل عن السبب ، فيوافق على قراري او يخالفه . ولكنني توضيحا للقضية اشرح فيما يلي شرحا موجزا الفرق بين ( المدنية ) و ( الثقافة ) في الاستعمال الحديث كما اعرفه عند البعض . فالمدنية عبارة مجموعة العلوم والمعارف على اختلاف انواعها ، بما في ذلك العلوم الطبيعية والصناعية والفنية . والثقافة عبارة عن حالة من الرقي الفكري الاجتماعي ، بدون ان يدخل في ذلك الرقي الصناعي والفني الحديث . فاذا اخذنا بلدا اوروبيا كبريطانيا مثلا . وجدنا ان فيها مدنية وثقافة ، وثقافتها تقوم على نظمها البرلمانية والتمسك بالحريات الفردية واعتباراتها الاخلاقية والدينية بصورة عامة . وقد تكون روسيا في الوقت الحاضر أكبر مدنية واقل ثقافة ، مع أنها كانت حتى أوائل القرن العشرين اقل مدنية واكثر ثقافة ، وقد تكون فرنسا اكثر ثقافة لما لها من تاريخ عريق في تطوير الافكار النظرية والاراء الاجتماعية والانظمة الانسانية ، ووثوق اتصالها بمدنية القرون الوسطى ، يعكس بريطانيا والولايات المتحدة مثلا . فهما اقرب الى العصور الحديثة.
ومن أشهر من كتب في هذا الموضوع او تعرض له المؤرخ الالماني المشهور « اوزفلد شبنكلر » في كتابه « انحطاط الغرب » فقد فرق هذا المؤرخ بين المدنية Civilization والثقافة Culture ، وعد هذا المؤرخ ان المدنية هي آخر مرحلة من مراحل الثقافة ، حينما تصبح تلك الثقافة تقنية او فنية صناعية . ويقول هذا المؤرخ ان الثقافات العالمية تمر في ادوار اربعة في حياتها وهي دور الشباب ودور الاكتمال ودور الشيخوخة ثم دور الفناء. ويقول ان الثقافة الغربية آيلة الى الزوال وستحل محلها ثقافة جديدة غير الثقافة السابقة . ويوافق على ذلك بصورة عامة المؤرخ الالماني « مارك » ، ولكنه يرى ان الذي سيخلف الثقافة الغربية الحالية لن يكون ثقافة اخرى ، وانما يكون مدنية قائمة على الفنون الصناعية، ويكون الدين وعوامل الثقافة الاخرى فيها ضعيفة أو تكون معدومة مع تمادي الزمان ، حتى أن اللغة تفقد كثيرا من مقوماتها الجمالية كالاستعارة والمجاز وحسن الاسلوب وما الى ذلك.
وللمؤرخ الانكليزي المشهور« طوينبي » راي معروف في هذا الموضوع . فهو يرى ان المدنية تمر في ادوار اربعة قبل ان تنقرض ، وهي دور التكوين ودور النمو ودور الانهيار ودور التفسخ . ولكنه يخالف شينكار في امرين مهمين : الاول انه لا يؤمن بنظرية الحياة في تطبيقها على التاريخ وتدرجها من دور الشباب الى دور الاكتمال ثم دور الشيخوخة فدور الفناء. والثاني انه يخالف شينكلر في ربط المدنية بجيل أو عرق بشري معين . وطوينبي بين المؤرخين قريب الى نظرية الفيلسوف الألماني « هيكل » ويسير معه فيها الى حد محدود ، ثم ينفصل عنه ، ولكنه قفا مضادا للنظرية الماركسية في التاريخ المعروفة بالمادية التاريخية التي تعتبر أن كل تغير في المجتمع راجع الى تغير كيفية الانتاج .
وكنت قبل مدة اقرا كتابا للشاعر والاديب الانكليزي المعروف ت. س. إليوت بعنوان " تعريف الثقافة " . وقد لاحظت أن هذا الاديب يتحاشى ان يفرق بين ( الثقافة ) و ( المدنية ) باعطاء تعريف لكل منهما يميز الواحد عن الاخر، وانما قصر بحثه على اعطاء تعريف للثقافة فقط. ويظهر جليا من تعريفه أن الثقافة عنده تقوم في الغالب على الدماثة في الخلق واساسات الحكمة والفلسفة والعنون والاداب والمعتقدات الدينية والمبادي الاجتماعية. ويرى ان المفكرين والفهماء هم الذين يتخصصون بالقضايا الفلسفية والبحث فيها بالاضافة الى ثقافتهم العمومية في النواحي الأخرى. وهو يرى ان الثقافة الغربية تعتمد على التراث الاغريقي والتراث الروماني والديانة المسيحية، ويرى أن الثقافة الغربية وحدة قائمة بذاتها ، وأكبر جامع وموحد لها هو الديانة المسيحية قبل أي عامل اخر.
هذه الوحدة الثقافية التي تمتد فوق حقبة من التاريخ تزيد على الفي سنة يعتبرها كثير من المؤرخين والكتاب الاوروبيين بأنها سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام لها ، أو انه يجب أن لا يكون لها انفصام. وعلى هذا فان المدنية العربية الاسلامية التي نشأت منذ القرن السابع كانت من واد غير وادي الثقافة الغربية، ولذلك اعتبرت هذه المدنية بأنها فصمت عرى الاتصال والتماسك في تلك الثقافة ، بل اعتبرت بأنها غريبة، ويمكن تجاهلها . وقد تجاهلها فعلا كثير من المؤرخين الاوروبيين ولم يوردوا لها ذكرا عند البحث في مدنية القرون الوسطى أو ثقافتها . مع ان هذه المدنية كانت مدنية زاهرة في زمان كانت اوروبا فيه منغمسة في حمأة من الجهل وسادرة في مهام الفوضى والظلام ، وليس بمستغرب ان يطلق الاوروبيون على القرون الوسطى أو على القسم الأول منها اسم ( القرون المظلمة).
وقد انجرف بعض الادباء العرب في تيار اولئك المؤرخين الأوروبيين ، فآمنوا بان المدنية العربية حينما عمت حوض البحر الابيض المتوسط من الشرق والغرب قد فصمت اتصال المدنية ، وراحوا يدعون الى اعادة المياه الى مجراها، وذلك عن طريق تشجيع الدراسات الاغريقية وترجمة المخلفات الادبية الاغريقية والرومانية . واذكر ان دراسة اللاتينية والاغريقية كانت من مواد برامج الدراسة في المدارس الثانوية العليا في فلسطين في زمن الانتداب. واذكر ايضا ان الياذة هوميروس المترجمة الى العربية قد ادخلت ايضا في مواد البرنامج في آخر عهد الانتداب.
واذا تكلمنا عن وحدة الثقافة في الغرب ، فهل يصح لنا ان نتحدث عن وحدة ثقافية في البلاد العربية ؟ واذا كان ت.س. اليوت، كما ذكرت آنفا ، مصيبا في قوله ان الديانة المسيحية هي اكبر جامع وموحد للثقافة الغربية ، فهل يصح أن نقول ان الديانة الاسلامية هي أكبر جامع وموحد للثقافة العربية ؟ واذا لم تكن الديانة الاسلامية بهذا الموضع من الثقافة العربية ، فما هو الذي يجمع بين العرب في مختلف بلادهم من المغرب الى حدود فارس ؟ اللغة العربية ام هو وحدة التاريخ ؟ فاذا كان الثقافة في تعريفنا هي مجموعة العادات والاتجاهات الفكرية المشتركة والمبادىء الاجتماعية العرفية ، فلا شك ان للديانة في ذلك مدخلا كبيرا ، لانها تصبغ عادات المجتمع بصباغ خاص بها، وتجعل من ذلك المجتمع وحدة قائمة بنفسها ، فتميزه عن غيره من المجتمعات الاخرى التي لها ثقافات مختلفة . والشعب شعب بحسب ثقافته اولا، وليس بحسب مدنيته بحكم الضرورة، اذا اعتبرنا ان المدنية تشمل الثقافة وتشمل ايضا الحياة التكنولوجية والعلمية الطبيعية . والمدنية ابعد من ان تفرق شعبا عن اخر كما تفرق الثقافة ، وخصوصا اذا قصدنا بالمدنية ما قصده ( مارك ) الذي اشرت اليه سابقا ، لان المدنية حينئذ تكون واحدة في جميع الاقطار . ولكن المدنية ، كالمدنية الغربية في الوقت الحاضر، تؤثر أكثر ما تؤثر في الشعوب الأخرى عن طريق محتواها الثقافي وليس عن طريق محتواها التكنولوجي وهذا الذي عنته « مارغريت مید » في كتاب لها عن حياة بعض القبائل البسيطة حينما قالت ان الثقافة الغربية تستعمر الشعوب الأخرى استعمارا نفسانيا ، بمعنى انها تنزع منها عاداتها ومفهوماتها الاجتماعية وتغرس مكانها عادات ومفهومات جديدة غريبة عنها . والذي يحدث في هذه الحالة ان الفرد من تلك الشعوب يفقد ما كان يعتمد عليه في كيانه النفساني من عادات و مبادىء اجتماعية ويستبدل بها غيرها من غير نتاج قومه ، فلا هو يحتفظ بماضيه ولا هو ينسلك مع جديده انسلاکا طبيعيا . هذا من جهة واحدة. ومن الجهة الاخرى فان النظم الجديدة تحطم النظم القديمة ، فيصبح الانسان مجانيا لمجتمعه والثقافته ويصبح قلقا بعد أن فقد ركائزه ودعائمه الاولى . هذا ما نسميه بالمجافاة.
وعلى هذا ، فانني لا اجد في البلاد العربية الان وحدة ثقافية جامعة ولو انها تأثرت بالثقافة الغربية على اختلاف انواعها من ثقافة كاتوليكية وثقافة بروتستانتية بحسب الدول الغربية التي حكمت البلاد العربية . ولم يعد العامل الديني عاملا جامعا بعد ان فقد سيطرته على النفوس ، وبعد ان اقبل المسلمون على الثقافة الغربية وتطبعوا بطبائعها ، وكانوا قبل القرن العشرين أو حتى الى اوائل القرن العشرين يتحاشون عنها لكونها مدنية غير اسلامية. والمثقفون العرب عموما في الوقت الحاضر يبعدون كثيرا عن ثقافتهم الاصلية ، فلا تصبح الثقافة الاصلية عاملا في التوحيد بينهم ، بل ان كثيرا من المفكرين بينهم يتنكرون الآن للثقافة العربية ، وقد بلغت المجافاة لهذه الثقافة عند البعض منهم انهم اخذوا يدعون الى نبذ كل علاقة بالماضي، و من الجملة نبذ العلاقة بالتراث اللغوي العربي، وهو اقصى ما وصل اليه الانتفاء negation من الماضي .
وليست هذه حركة مقتصرة على البلاد العربية أو بعض البلاد العربية ، وانما هي حركة ظهرت في أوروبا الغربية، وخصوصا في ايطاليا ، في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين ، وظهرت بمظهر واضح جلي في روسيا بين الادباء والفهماء الروس في القرن التاسع عشر . فقد انقسم هؤلاء قسمين : ١- قسم الغربيين الذين كانوا يدعون الى الاقبال على المدنية الغربية اقبالا جامحا ، ومن بينهم هرزن ، بلنسكي، باكونين. ٢- قسم السلافونيين الذين كانوا يدعون إلى المحافظة على الثقافة الروسية ، ومن بينهم خومیاکوف ، اکساکوف كير يفسكي . ولكن فكرة السلافونيين تغلبت ، واندحرت فكرة الغربيين ، وخصوصا بعد منتصف القرن التاسع عشر. وهذه ظاهرة غريبة في روسيا ، لان اكثر الفهماء يهاجمون اول ما يهاجمون قواعد الثقافة بين قومهم ، تخلصا مما تستلزمه هذه القواعد من ظلم وتفريق بين الطبقات.
لندن حسن الكرمي
شارك بتعليقك