نقلها م.سليم هاني الكرمي
نشر الصحفي هشام عودة هذا الموضوع في صحيفة الدستور الاردنية بتاريخ السبت، 5 ديسمبر/كانون الأول، 2009
بين دمشق وعمان ، وما بينهما من مدن وعواصم عديدة ، مسافة تزيد على سبعة وثمانين عاما ، قطعها الاعلامي البارز زهير الكرمي ، منذ اطلق صرخته الاولى في العاصمة السورية عام 1922 ، التي كانت ترزح لتوها تحت الانتداب الفرنسي ، الى ان اغمض اغماضته الاخيرة في عمان في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 2009 ، ودفن فيها وسط شعور عارم بفقدان مثقف موسوعي اسهم في تربية اجيال عربية.
كان يمكن ان يكون طبيبا ، لكن وفاة والده محمود الكرمي ، شقيق الشاعر الكبير عبدالكريم الكرمي ابي سلمى واللغوي الاعلامي المعروف حسن الكرمي ، دفعت "زهير" لمغادرة كلية الطب الى كلية العلوم في الجامعة الاميركية في بيروت ، اختصارا لسنوات دراسته ، ليحصل على درجة البكالوريوس عام 1941 ، بعد ان انهى دراسته الثانوية في كلية النجاح في نابلس ، اثناء اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى ، وهو الذي درس من قبل في مدارس دمشق وغزة والخليل وعمان ، بحكم عمل والده وتنقل اسرته.
في عام النكبة 1948 حصل زهير الكرمي على درجة الماجستير في الاحياء من لندن ، وعمل لسنوات طويلة مدرسا في مدارس فلسطين والاردن والكويت ، ومن ثم مفتشا عاما في الكويت واسهم في تطوير مناهجها الدراسية.
ظل مشغولا بتخصصه العلمي ، ورأى في التلفزيون نافذة واسعة لتقديم عمله وخبرته ومعرفته الواسعة ، فكان برنامجه الشهير "العلم والحياة" واحدا من اكثر البرامج رواجا في التلفزيون الاردني وغيره من التلفزيونات العربية ، وهو البرنامج الذي استقطب العامة من غير الاختصاص ، فيما قدم عبر شاشة التلفزيون الكويتي مجموعة من البرامج العلمية ، التي اسهمت في مجموعها في تحبيب هذا العلم الى نفوس المشاهدين ، وتقديم الكرمي مثقفا عربيا موسوعيا.
يعود له الفضل في تأسيس المتحف العلمي في الكويت ، فيما حملت توقيعه مجموعة من الكتب المؤلفة والمترجمة المتخصصة في العلوم وما حولها.
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عاد الى فلسطين وعمل نائبا لعميد كلية ابو ديس ( جامعة القدس حاليا) واسهم في تطوير برامجها التعليمية ، فيما شغل في سنوات عمره الاخيرة في عمان مواقع قيادية في جمعيات خيرية ذات نفع عام ، اشرف من خلالها على توزيع الخير على محتاجيه.
ابناؤه الاربعة محمود ، فؤاد ، معتز ، علي يحملون لقب دكتور قبل اسمائهم ، وبناته الثلاث سعاد ونسرين ونادية اخذن نصيبا وافرا من التعليم ، فيما ظل وفيا لشريكة حياته وقام على خدمتها في سنوات مرضها.
ابو محمود الذي نذر اكثر من ستين عاما من عمره لخدمة العلم وتربية الاجيال ، ذهب الى الاستقالة من وظيفته الحكومية في الكويت في منتصف الستينيات ليعمل مديرا لشركة اكسجين الكويت ومن ثم شركة الغازات ، مسخرا علمه في سبيل تطوير صناعة عربية منافسة.
احداث كثيرة عاشها زهير الكرمي في حياته التي تمددت على مساحة تسعة عقود ، لكن احتلال فلسطين عام 1948 مثل في حياته محطة استثنائية ، مستذكرا حجم الجريمة والمؤامرة التي تعرضت لها بلاده ، وظل مؤمنا بان جيلا عربيا متعلما هو اقدر من غيره على قيادة المعركة ، فكان يقدم في دروسه وبرامجه التلفزيونية ما ينفع الناس دائما.
مثقف موسوعي ، هكذا يمكن وصف زهير الكرمي الذي ينتمي لعائلة تنتسب لمدينة طولكرم قدمت للوطن والامة عددا من الرموز البارزة في مختلف مجالات الادب والثقافة والقانون والعلوم ، وبرحيله فان الحركة الثقافية العربية بشكل عام تكون خسرت واحدا من رموزها وشيوخها المؤثرين ، وظل حاضرا في قلب المشهد عبر العقود السبعة الماضية.
شارك بتعليقك