http://nabeelalkam.com/new/news.php?action=view&id=148#comment21
وماذا بعد؟
أبدى الرئيس محمود عباس رغبةً بعدم ترشيح نفسه. وترك الإعلان عن هذه الرغبة عاصفة من ردود الفعل الفلسطينية، في حين لم نلمس أي ردود فعل عالية الوتيرة خارج فلسطين. أما ردود الفعل الفلسطينية فهي تتراوح بين دعوة الرئيس إلى العدول عن هذه الرغبة وبخاصة من عناصر السلطة وعناصر حركة فتح، وبين الترحيب بها من قبل حركة حماس، وبين أغلبية صامتة وكأن الأمر لا يعنيها، وإن كانت مهتمة بالحدث سلباً أو إيجاباً.
لقد تركت هذه الرغبة التي أبداها الرئيس محمود عباس عدداً كبيراً من الأسئلة تناولها عدد أكبر من المحللين والمسؤولين من المؤيدين والمعارضين بالتحليل والتنبؤات والدعوات إلى هذا النهج أو ذاك في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، ومع الشأن الداخلي الفلسطيني.
قضيتنا الفلسطينية لا تحتاج إلى جهابذة التحليل السياسي، وإلى برامج تلفزيونية نسمع فيها خبراء السياسة ودهاقنتها، في حين أن الأمر من السهولة بحيث تدركه أمي العجوز الأمية ومثيلاتها ممن يلخصن الموقف بأن "اللي بوخذوا الأرض وبِبْنوا مستوطنات ما بطلعوا إلا بقوّة تزيحهم من هالبلاد" وهو تلخيص أبلغ وأكثر دقة مما نشاهده ونسمعه على شاشات التلفزة من دهاقنة السياسة والمحللين الاستراتيجيين والسياسيين، لكن مفهوم "القوة" هو الذي يجب البحث في معناه ووسائله.
لدينا أربع تجارب فلسطينية في التعامل مع الاحتلال منذ عام 67، وضعت كل منها الحقيقة أمامنا بوضوح ما بعده وضوح.
التجربة الأولى تجربة الثورة المسلحة بين الأعوام 67-82، وهي التجربة التي أقلقت العرب والإسرائيليين فتعرضت إلى ضربات موجعة من العرب والإسرائيليين معاً، ولست في هذا المقام بمعرض تفصيل اسبابها وظروفها وأخطاء أو جرائم أطرافها من العرب والفلسطينيين والإسرائيليين، وانتهت التجربة بخروج المقاتلين إلى تونس واليمن والسودان وغيرها من الأقطار العربية، وبانتهاء تجربة القوة العسكرية الفلسطينة، تحولت التجربة إلى العمل السياسي والديبلوماسي دون قوة تحميها مما فرض عليها أن تغير ثوابتها وميثاقها من تحرير فلسطين إلى تحرير أراضي ال 67 لبناء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بعاصمتها القدس الشرقية. واستكملت تجربة العمل العسكري كأسلوب للتحرير من قبل حماس والجهاد الاسلامي وبعض الفصائل الأخرى في ظروف لا توفر لها أسباب النصر العسكري فحوصر قطاع غزة بعد الانسحاب الاسرائيلي، ولا يمكن القول أن العمل العسكري في التجربتين قد فشل، ولكنه لم يحقق للفلسطينيين طموحاتهم وآمالهم حتى في حدودها الدنيا.
والتجربة الثانية هي تجربة الرئيس الراحل ياسر عرفات في المزاوجة بين العمل العسكري والسياسي معاً، وبدأت وانتهت بعد أوسلو، وأدت إلى اجتياح الاحتلال لمناطق السلطة الفلسطينية وإلى محاصرة الرئيس عرفات وقتله، وبذلك فشلت المزاوجة بين العمل السياسي والمقاومة، فقد أخذت السلطة باتجاه الاستجابة للشروط التي فرضتها الولايات المتحدة وما يسمى المجتمع الدولي.
والتجربة الثالثة تجربة الرئيس محمود عباس في محاصرة الاحتلال سياسياً وديبلوماسياً عن طريق المرونة في التعامل مع الولايات المتحدة بما في ذلك قبول وضع الأمن الإسرائيلي على رأس اولويات السلطة وتحت إشراف أميركي بقيادة دايتون. وجاءت رغبة الرئيس محمود عباس في عدم ترشيح نفسه للرئاسة في الانتخابات القادمة، لتعلن لنا وللعالم كله فشل تجربة الحصار السياسي لإسرائيل بالمرونة التي يراها ويريدها العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة تحت مسمى المجتمع الدولي.
والتجربة الرابعة هي تجربة المقاومة الشعبية الشاملة المتمثلة في انتفاضة عام 87، وقد جاءت التجربة بعد فشل القوة العسكرية لتحرير الأرض المحتلة عام 67 وخروج المقاتلين من بيروت عام 82، وبعد أن وصلت الكراهية للاحتلال والحقد عليه أعلى درجاتها، ونجحت التجربة في حصار الاحتلال الإسرائيلي في سياساته وأخلاقه وممارساته وقواته العسكرية واقتصاده وكل ما يؤثر على الاحتلال، ولكن هذه التجربة الناجحة أدت إلى فشل سياسي قامت به منظمة التحرير بحسابات مغلوطة أدت إلى اتفاقيات أوسلو التي فكّت الحصار عن الاحتلال، وانقلبت الاتفاقيات إلى ميزات للاحتلال وهزيمة للمقاومة الشعبية الفلسطينية التي حاصرت هذا الاحتلال.
والآن نتساءل: وماذا بعد؟ لقد فشل العمل العسكري الذي لم يرافقه عمل سياسي موازٍ وفعال ومتفهم للواقع وللتغيرات الفلسطينية والعربية والعالمية والدولية. وفشلت المزاوجة بين العمل العسكري والسياسي التي انتهت إلى محاصرة أبي عمار وقتله، وفشل العمل السياسي دون أية قوة توفر له أية أوراق حماية للمشروع الوطني الفلسطيني. وفقط نجحت المقاومة الشعبية في الأراضي المحتلة دون وجود سلطة في الأرض المحتلة.
لقد وفرت أوسلو للاحتلال أكثر مما يمكن أن يطمح فيه. لقد أوجدت سلطة فلسطينية تحت الاحتلال، عليها:
1- إما أن لا تقاومه بالمطلق، وإن فعلت أو فعلت الجماهير الفلسطينية مقاومة جدية للاحتلال فسيواجهها بفعل كل الموبقات تجاه السلطة والشعب الفلسطيني تحت الاحتلال بسبب هذه المقاومة، وهذا ما حدث في الضفة إبان الاجتياح وانتهى بقتل الشهيد ياسر عرفات، وهذا ما فعله الاحتلال بعد انسحابه من قطاع غزة بحصارالقطاع وشن حرب همجية عليه وتحويل حياة أبنائه إلى جحيم.
2- وإما أن ينبذ الفلسطينيون المقاومة، وأن يقبلوا ما يجود به الاحتلال عليهم لأنهم لا يملكون أية أوراق للقوة التي يمكن أن يحسب لها الاحتلال أية حسابات، واحتلال مثل الاحتلال الإسرائيلي لن يفكر يوماً بأن يجود على الفلسطينين بأي شيء، وبالعكس تماماً فإن الايديولوجيا الصهيونية والاستراتيحيات التي تتبناها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سواء منها اليمينية أو الوسط أو اليسارية تتبنى وتنفذ تدريجياً سياسة تجريد الفلسطينيين من كل شيء يمكن تجريدهم منه بما في ذلك حياتهم وإنسانيتهم وأملاكهم، وهذا ما فعله الاحتلال بصورة همجية أيضاً في عزل القدس والاستيلاء على املاك الفلسطينيين من بيوت او هدمها وبناء الجدار وتصعيد مصادرته للأراضي في الضفة الغربية وسياسات إذلال السلطة والفلسطينيين وغيرها مما يعرفه الفلسطينيون تحت الاحتلال، بل يعرفه الأحرار في كل العالم.
والخلاصة أن تبني المقاومة العسكرية أو تبني منعها وتجريمها من قبل السلطة، لم يقدما شيئاً بل زادت الأمور تعقيداً ووضعت القضية الفلسطينية برمتها في مهب الريح.
وهكذا يمكن الاستنتاج بأن الخلاص لا يكون إلا بحلّ السلطة، فلا تتمكن سلطات الاحتلال من أن تفرض على أية قيادة فلسطينية تحت الاحتلال أية شروط، ويكون الاحتلال مسؤولاً بموجب القوانين الدولية، وسيجبر الاحتلال على مواجهة المقاومة الشعبية بكل إمكاناتها الكامنة والمعطلة، وعلى السلطة قبل حلها أن تطلب من الأمم المتحدة أن تتولى ملء الفراغ، وإن لم تنجح الأمم المتحدة في ملء هذا الفراغ فعلى إسرائيل بصفتها قوة احتلال تحمل المسؤولية. عندها ستتفجر في وجهها كل أشكال المقاومة التي ستحاصرها سياسياً وأمنياً عسكريا لأنها تحتاج إلى تشتيت جيشها كي يضبط ما يسمونه "متطلبات الأمن الإسرائيلي" وسيكون الفلسطينيون في وضع افضل بكثير لمقاومة هذا الاحتلال الغاشم. أما القيادة الفلسطينية فيجب أن تكون في الخارج ممثلة بمنظمة التحرير التي يجب أن يعاد بناؤها لتمثل كافة الفلسطينيين في الداخل والخارج، وأن يكون لها أذرعاً تعمل على التواصل بين القيادة في الخارج وشعبها في الداخل، كما كان الوضع قبل أوسلو. صحيح أن هناك متغيرات كثيرة تحتاج دراسات وحوارات طويلة في التفاصيل، لكن وجود سلطة تحت الاحتلال لم يفدنا بل أساء إلى نضالنا كثيرا، ولن يفيدنا في المستقبل بل سيزيد من ضعفنا وتشرذمنا وسيسمح للاحتلال بتصفية قضيتنا من خلال الوقائع التي يفرضها على الأرض وأمام العالم وأمام ناظرينا دون أن يكون بمقدورنا وقف هذا الطغيان الإسرائيلي الذي يتشبث بوجود سلطة فلسطينية سواء بجناحها الذي يتبنى المقاومة التي يسهل عليه ضربها وضرب قياداتها، أو بجناحها الذي يرفض المقاومة تحت مسميات الواقعية السياسية فيوفر للاحتلال ما يريد من هدوء يمكنه من تنفيذ مخططاته في تصفية القضية الفلسطينية. أتمنى أن تكون إحدى قرارات الرئيس محمود عباس التي سيتخذها، كما جاء في خطابه الذي أبدى فيه رغبته بعدم ترشيح نفسه، هو قرار إلغاء معاهدة أوسلو وحلّ السلطة الفلسطينية!
شارك بتعليقك