فلسطين في الذاكرة من نحن تاريخ شفوي نهب فلسطين English
القائمة الصراع للمبتدئين دليل العودة صور  خرائط 
فلسطين في الذاكرة سجل تبرع أفلام نهب فلسطين إبحث  بيت كل الفلسطينيين على الإنترنت English
من نحن الصراع للمبتدئين    صور     خرائط  دليل حق العودة تاريخ شفوي نظرة القمر الصناعي أعضاء الموقع إتصل بنا

ترمسعيا: الحفاظ على تراث القدس

مشاركة معاذ حجاز في تاريخ 21 كانون ثاني، 2010

صورة لقرية ترمسعيا - فلسطين: : صوره من داخل مُغتصبة شيلو وتظهر ترمسعيا من الشمال و سنجل من اليمية أنقر الصورة للمزيد من المعلومات عن البلدة
موقع الاستاذ نبيل علقم
http://nabeelalkam.com/new/index.php
موقع المقالة
http://nabeelalkam.com/new/news.php?action=view&id=153#comment40

الحفاظ على تراث القدس


(ألقيت هذه المحاضرة في "مؤتمر التراث الشعبي الفلسطيني في القدس الشريف" الذي أقامته جامعة القدس المفتوحة يوم 28/12/2009، ضمن الاحتفالات بالقدس عاصمة الثقافة العربية)

مقدمة

يتطلب الحفاظ على تراث القدس بناء استراتيجيات فكرية وعملية. ولا بد أن تبدأ هذه الاستراتيجيات بمعرفة الخطر أو الأخطار التي تهدد هذا التراث المقدسي، ولأننا نعرف أن الخطر الحقيقي هو الخطر الإسرائيلي، فلا بد أن تتمثل البداية بفهم العقل الصهيوني-الإسرائيلي سواء تجاه مدينة القدس وخطط الإسرائيليين المنبثقة عن هذا العقل، ووسائل التنفيذ المستعملة أو المتوقع استعمالها من قبلهم من أجل ما نسميه: تهويد المدينة المقدسة. وهذا الفهم لمنطق العدو وأساليبه يساعدنا في وضع الأساس المتين الذي تنطلق منه دراسات منهجية علمية جادة لخطط حماية تراث القدس خصوصاً والتراث الفلسطيني عموماً لأنهما يمثلان قضية واحدة بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي هي قضية شرعية وجود الكيان الإسرائيلي ذاته.

لا بدّ من الإشارة أولاً أن الكيان الإسرائيلي كيان مصطنع على أرض فلسطين، وقد تضافرت مجموعة من العوامل لاصطناعه ألخصها باختصار فيما يلي:





1- أنه كيان استعماري ظهر ونشأ وقوي في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في أثناء حمّى التنافس الاستعماري الأوروبي على العالم العربي خصوصاً وعلى العالم الثالث عموماً.

2- أنه كيان غربي، فلقد تبناه الغرب الاستعماري ومنحه كل عوامل القوة اللازمة، وقد تبنته في حينه بريطانيا العظمى وتتبناه اليوم الولايات المتحدة مع توفير دعم لا يخفى على أحد من سائر الدول الغربية.

3- أنه كيان صهيوني، إذ أن الحركة الصهيونية كانت المدخل الملائم لنهوض هذا المشروع الذي دعمته كل من الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية في العالم.

4- أنه كيان عنصري يهودي، إذ أن مادته البشرية المستعملة للتهجير إلى فلسطين هم اليهود فقط مع استثناءات ليس لها قيمة في المشروع.

5- أنه كيان استيطاني يختلف عن الأشكال التقليدية للاستعمار الغربي فيما عدا الاستيطان الاستعماري في الجزائر وفي جنوب إفريقيا.

6- أنه كيان إحلالي، إذ أنه يريد الأرض دون أصحابها من الفلسطينيين وذلك لإحلال اليهود من كل أنحاء العالم محل العرب الفلسطينيين.

وشكلت هذه العوامل مجتمعة قوة قادرة على تنفيذ مشروع اصطناع الكيان الإسرائيلي، في غياب القدرات الكامنة في العالمين العربي والفلسطيني بالتصدي للمشروع وإحباطه، خصوصاً وأن الاستعمار الغربي نفسه قد هيمن، وما زال يهيمن، على الأنظمة السياسية العربية التي تقبل هذه الهيمنة استجابة لمتطلبات بقائها في الحكم، فتقمع هي الأخرى أية توجهات لتعبئة هذه الطاقات الكامنة لمقاومة المشروع المصطنع. ونعرف جميعاً مجريات الأحداث التاريخية والسياسية في الصراع القائم بين الكيان المصطنع وحلفائه وبين الفلسطينيين وسائر العرب والمسلمين.

أدرك القائمون على مشروع اصطناع إسرائيل منذ البداية أن عليهم أن يحققوا ثلاثة أهداف هي متطلبات نجاح مثل هذا الكيان وهي: احتلال الارض، والتخلص من سكانها الأصليين، وبناء هوية للسكان الجدد.

وقد استعمل القائمون على المشروع القوة العسكرية لاحتلال الأرض، ونجحوا في السيطرة على 90% من مساحة فلسطين، ولكن القوة العسكرية رغم استعمالها في حدودها القصوى لم تنجح في التخلص من السكان الأصليين، فعلى أرض فلسطين يعيش اليوم نصف الفسطينيين، ويعيش نصفهم الآخر في الشتات. وأما بناء هوية للسكان الجدد فهو موضوع هذه الورقة، إذ أن ما يجري في القدس من عزلها ومن حصار للفلسطينيين فيها والتضييق عليهم ومن استيطان وتهجير وهدم للبيوت يتعلق في أغلب اسبابه بالهوية الإسرائيلية وهو الهدف الثالث من متطلبات نجاح المشروع المصطنع.



إشكالية الهوية الإسرائيلية



هوية أية جماعة هي مجموع الرموز المشتركة بين أعضاء هذه الجماعة، وتتمثل الرموز المشتركة في اللغة والدين واللباس والطعام والقيم والعادات والتقاليد والمفاهيم وكل ما يميز هذه الجماعة عن غيرها. ومجموع هذه الرموز هي التي تُعَرِّفُ بها أية جماعة نفسها مقابل الجماعات الأخرى. وللهوية مستويات مختلفة، فهي هويات عائلية وعشائرية ووطنية وطائفية ودينية وقومية وإنسانية. وتتشكل هوية أية جماعة من خلال تفاعلها مع المكان أو الأرض التي وجدت أو توجد عليها. وكلما كان لهذه الجماعة تاريخ طويل كلما أنتجت رموزاً مشتركة تمنح الهوية قوتها ومتانتها، وبذا تتحول الجماعة أو عدد من الجماعات المتجاورة إلى مجتمع حقيقي، تتشكل فيها النظم المختلفة من سياسية واجتماعية واقتصادية وسواها.

إن إشكالية الهوية الإسرائيلية إشكالية مزدوجة: يتعلق جزؤها الأول باصطناع هوية إسرائيلية، ويتعلق الآخر بالمجتمع فلسطيني الذي يمتلك هوية عربية غنية بالرموز، إذ أنها حصيلة الرموز العربية، منذ الحضارة الكنعانية، ثم الرموز الإسلامية منذ تحريرها من الرومان، والرموز الفلسطينية منذ بداية المشروع الصهيوني.

إن مشروع اصطناع إسرائيل مشروع شاذ غير طبيعي دون هوية حقيقية، إذ قرر المخططون للمشروع على اصطناع الدولة وإيجاد المجتمع من مجموعات يهودية فسيفسائية، واصطناع الرموز المشتركة لتشكل هوية للجماعات التي تهاجر أو تُهجّر إلى فلسطين. لكن هذه الجماعات كما يقول المسيري قد تحددت هوياتها المختلفة "في غياب سلطة يهودية مركزية، دينية أو دنيوية، عبر الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضارية ومن خلالها، الأمر الذي نجم عنه تنوع هائل في الهويات اليهودية، وتتسم هذه الهويات باستقلال نسبي عن سياقها الحضاري، شأنها شأن هويات الجماعات الإثنية والدينية، ولكنها في الوقت نفسه لا تنتمي إلى هوية يهودية واحدة عالمية، ومع هذا فقد استمر الجميع (اليهود وغير اليهود) كما لو كانوا كلاًّ واحداً" (المسيري: المجلد 2، 1999، 167). ولأن الهوية مصطنعة فإن اصطناعها يتطلب تاريخاً وتراثاً يمنحان الرموز المشتركة ليهود "إسرائيل"، وحتى لليهود خارجها. وقد وفرت التوراة ركيزة لاصطناع التاريخ والتراث، وعملت كل من الصهيونية وإسرائيل، ولا تزالان تعملان على اصطناع التاريخ واصطناع التراث بكل ما تيسر من أكاذيب واختلاقات وتزوير وتضليل يلبس لباس الطابع الأكاديمي والعلمي والمنطقي لأنه يستمد شرعيته من التوراة التي يؤمن بها لا اليهود فقط، وإنما عشرات الملايين من المسيحيين الغربيين وعلى الأخص البروتستانت الأميركيين.

لقد استعملت الحركة الصهيونية االتوراة والكتب الدينية الأخرى المتممة أو الشارحة لها، لثلاثة أهداف هي:

1- استخراج واستنباط الرموز لبناء هوية إسرائيلية.

2- منح الحركة الصهيونية ومن ثم الدولة الإسرائيلية الشرعية الدولية اللازمة للوجود والاستمرار.

3- تعبئة وشحن اليهود وغير اليهود من الصهاينة المسيحيين والرأي العام الغربي من أجل مشروع اصطناع دولة إسرائيل وحمايتها.

وقد استعملت الحركة الصهيونية ومن بعدها إسرائيل بعد تأسيسها عدداً من الأساطير التوراتية أو المستوحاة منها: شعب الله المختار، واليهودي الخالص، والنقاء العرقي، ووعد إلههم لهم بمنحهم هذه الأرض، وأقدمية التاريخ والتراث العبري وتأثيره في المحيط الإقليمي وفي الحضارة اليونانية التي يعتبرها الغرب ينبوع ثقافته على مرّ العصور. وقامت دولة "إسرائيل" على مثل هذا الكذب والتضليل. وقد أدت هذه الأساطير باليهود إلى العزلة من جهة وإلى العنصرية من جهة أخرى، ويبدو ذلك في مطالبة ساستهم، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة! وقد استطاع أصحاب الخطاب التوراتي التأثير على قطاعات واسعة من الجماعات اليهودية المختلفة، كما استطاعوا "التغلغل داخل حركات المسيحية الأصولية الأمريكية، لدرجة أن هذه الأوساط أصبحت تؤمن إيماناً راسخاً بحتمية هدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان المزعوم في نفس مكانه، تمهيداً لمعركة تخوضها قوى الخير (وعلى رأسها أمريكا) ضد قوى الشر(المسلمون ومن والاهم) في موقع مجدو وبعدها يأتي المسيح ليحكم ألف عام سعيد" (الخيري: 2004، 108)، وضمن هذا الترويج للتوراة لا نستغرب أن يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن في أثناء زيارة له لأميركا بتقديم التوراة لرئيسها جيمي كارتر قائلاً: إذا كنت مؤمناً يجب أن تقر بكل ما جاء في هذا الكتاب. (الخيري: 2004، 9). وهكذا روجت الصهيونية للكذبة الكبرى في الحق الإلهي لليهود في فلسطين وبنت عليها أكاذيب من التوراة وملحقاتها من كتب الشرح والتفسير. ومن المفارقات الدالة على أن إسرائيل قامت على هذه الكذبة التاريخية الكبرى، أن مائة وخمسين عاماً من الحفريات الأثرية الغربية والإسرائيلية التي افترضت التوراة ككتاب تاريخ مُسّلم بأحداثه ورواياته لم تتوصل إلى أية نتيجة كما يقول فيصل الخيري أنه وبشهادة عالم آثار إسرائيلي هو زئيف هرتسوج الذي جاء على لسانه ما يلي: "بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في أرض إسرائيل توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط إلى مصر، ولم نصعد من هناك، لم نحتل البلاد، ولا ذكر لأمبراطورية داود وسليمان، والباحثون المهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن.." (الخيري: 2004، 93)، ويقول الخيري أيضاً: في فلسطين وجدت آثار على كل الأقوام التي غزت أو عاشت في فلسطين من الكنعانيين والمصريين والهكسوس والحثيين والبابليين والآشوريين والفرس واليونان والرومان إلا اليهود فلم يتركوا أية آثار تدل عليهم، ولم يستطيعوا أن يجدوا أية آثار لهم، وما وجد من آثار يهودية تعود في أقدمها إلى القرن الثاني قبل الميلاد وهي الفترة التي تكونت فيها الديانة اليهودية (الخيري: 2004، 9-10).

ولو افترضنا جدلاً أن عدم وجود آثار لا يهدم الكذبة الكبرى التي أنشأت إسرائيل، فمن السهل هدمها من خلال التوجه لدراسة التاريخ القديم لفلسطين وبخاصة بعد اكتشاف وثائق أوغاريت الكنعانية التي كشفت النصوص التوراتية المنقولة عن النصوص الكنعانية الأقدم من التوراة بعدة قرون (يوسف: 2005، 71-100)، وكذلك بعد أن أخذت ترتفع أصوات غربية تكذب الكذبة الكبرى، وتدعو إلى كتابة التاريخ الحقيقي لفلسطين الذي أسكتته الدراسات التوراتية كما يقول كيث وايتلام في دراسته "اختلاق إسرائيل القديمة"، ومثلها دراسة القس مايكل بريور "الكتاب المقدس والاستعمار" وغيرهما. ويمكن لأية دراسات منصفة محايدة للتوراة أن تفند ما استعمله مروجو الدراسات التوراتية للتأكيد على أن اليهود هم أصحاب الحضارة الأوائل التي انطلقت من الدولة الإسرائيلية القديمة، وذلك بسبب التناقض في النصوص، ومنطق الأسطورة الذي يبدو واضحاً لكل قارئ يفتح عقله وينحيّ عواطفه وأفكاره المسبقة سواء الدينية أو السياسية منها!

ولا يسمح لي الوقت لأن أتحدث كيف تأثر الغزاة العبريون بالثقافة الكنعانية في كافة المجالات اللغوية والزراعية والصناعية والدينية وسواها، وكيف دمجوا بينها وبين أخلاقهم وطموحاتهم وأحلامهم وآلامهم وديانتهم، وكيف انعكس ذلك كله في تدوين التوراة التي دونت على مدى تسعة قرون ما بين القرن العاشر والأول قبل الميلاد، وبخاصة ما دون منها بعد السبي البابلي(سواح: 1993، 136) و (المسيري: 1999، مجلد5، 85).

بدأ اصطناع الهوية الإسرائيلية باستثمار العزلة اليهودية في المجتمعات التي تعيش فيها الأقليات اليهودية، بتغذية المشاعر والعواطف الدينية والقومية وأن الأرض المقدسة هي الوطن القومي لليهود في الشتات! ويرى بن غوريون أن ما يربط اليهود ليس الدين اليهودي فقط إذ أن هناك لا دينيون بين اليهود، وليست اللغة فقط، لأن اللغة العبرية قد اختفت تقريباً ويتكلم اليهود لغات متعددة، وإنما تربط بين اليهود رؤيا العودة، والإيمان بأن الخلاص هو في العودة إلى جبل صهيون، حيث أقام داود معبده الأول(شلبي: 1996، 140).

وكانت عملية إحياء اللغة العبرية المندثرة تقريباً هي الهدف المهم الآخر لمنح هوية مشتركة لليهود، وكانت اللغة العبرية قد اختفت بوصفها لغة حديث مع التهجير البابلي عام 567 ق.م. وحلت الآرامية محل العبرية في القرن الثالث قبل الميلاد. وحتى اليهود الذين عادوا إلى فلسطين بعد النفي يبدو أنهم كانوا يتحدثون الآرامية أو اليونانية وهما اللغتان اللتان تحدث بهما بولس للناس في فلسطين، ثم أخذت الأقليات اليهودية تتحدث اللغات القومية في الأقطار التي تواجدت فيها (المسيري، المجلد الثالث: 1999، 327)، ولكن مع انطلاقة المشروع الصهيوني أخذ القائمون عليه يروجون شعار: من يعتنق الفكرة الصهيونية "عليه أن يبادر بتعلم اللغة العبرية دون إبطاء" (شلبي: 1996، 138).

وكان إنشاء الجامعة العبرية بعيد الانتداب البريطاني خطوة متقدمة في إحياء واصطناع الرموز المشتركة للمهاجرين أو المهجرين إلى فلسطين. وبعد ذلك يمكن أن نتحدث عن جهات كثيرة وأساليب كثيرة ساهمت وما زالت تساهم في اصطناع الرموز وبعثها، ومن هذه الجهات: الجامعات ومراكز الأبحاث والجمعيات والصحف والمدارس الحكومية والدينية، والمؤسسات العسكرية والسياسية.

أما موضوعات الرموز فكثيرة أهمها الرموز الدينية والتاريخية والسياسية، وأذكر من بينها: إعادة شعائر تعبدية كانت قد ضعفت كصيام اليهود في التاسع من آب في ذكرى هدم الرومان للهيكل رغم أنه هدم عدة مرات كما تتحدث الأدبيات الإسرائيلية. وفي سياق اصطناع الرموز المشتركة لا نستغرب كثرة الإعياد التي يحتفل بها اليهود وبخاصة في إسرائيل كعيد رأس السنة، وعيد الغفران، وعيد المظال، وعيد حانوخة أو التدشين، وعيد الفصح، وعيد النصيب(المسخرة: مسروخوت) وعيد الميمونة وغيرها الكثير (المسيري، المجلد الخامس: 1999،263-276).

وقد أولى الإسرائيليون اهتماماً شديداً بالأسماء والتسميات كتسميات المدن والمستوطنات وربطوا بينها وبين التوراة أو تاريخ الجماعات اليهودية، وحتى أنهم ابتعثوا "الشيقل" كعملة إسرائيلية، وكانوا قد نقلوه في القديم عن نظام الوزن البابلي، واستعمله الملك سليمان في زمنه حيث فرض نصف شيقل على كل يهودي بالغ لبناء الهيكل(المسيري، المجلد الرابع: 1999، 170-171). ومثله نجمة داود وهي تعني درع داود، ومن الملاحظ أن الكثير من التسميات والرموز لم تكن إسرائيلية حتى في زمن داود وسليمان، فنجمة داود التي استعملها الإسرائيليون رمزاً من رموزهم الهامة موجودة في النقوش المصرية القديمة، والصينية، والهندوكية، وحضارات أمريكا الجنوبية، وهي رمز خصب كنعاني، ووجدت كذلك في نصوص سحرية بيزنطية وغيرها (المسيري، المجلد الثالث: 1999، 224).

كما يستعمل الإسرائيليون الاحتفالات بالمناسبات الدينية والتاريخية القديمة والحديثة لتعميم الرموز واصطناع الهوية، كالاحتفالات بعيد الاستقلال، والاحتفالات التي جرت قبل عدة سنوات بمناسبة مضي ثلاثة آلاف سنة على دخول الملك داود القدس.

وقد استثمر الإسرائيليون تراث الجاليات اليهودية القادمة إلى إسرائيل، وهو في الحقيقة ينتمي إلى تراث الشعوب التي عاش بينها اليهود القادمين ونقلوه معهم إلى إسرائيل، وقد قام الإسرائيليون بعمليات انتقاء لما يساعد في بناء الرموز المشتركة واصطناع الهوية الإسرائيلية ومن ذلك الملابس والطعام والحكايات والرقص والدبكات وتقاليد الحياة الزراعية والأعياد المرتبطة بالأرض والفلاحة وسواها، ويسوقون ذلك للعالم على أنه تراث إسرائيلي.

ومع كل هذا الجهد، فإن اصطناع الرموز المشتركة بطريقة معكوسة لما هو طبيعي، لم تحقق النتائج الكثيرة، ذلك أن الرموز تنشأ بين الجماعات ببطء ونتيجة للتفاعل المستمر بين الإنسان والزمان والمكان وهي شروط تفتقدها محاولات اصطناع الرموز الإسرائيلية وبخاصة أن الإسرائيليين لم يشكلوا مجتمعاً حقيقياً بقدر ما هم مجرد جماعات يهودية تجمعها رموز الشر أكثر مما تجمعها أية رموز حضارية غير القوة العسكرية. وقد عبّر القس الأمريكي الدكتور "هومر أوجل" عن ذلك عام 1965 بقوله: "وجدت في إسرائيل أقواماُ مختلفين، نجحوا في إقامة مزارع ومدن، وفشلوا في إقامة وطن موحد"، وهزه أيضاً اختلاف القيم والمبادء والأخلاق (شلبي: 1996، 133). وإذا كان هذا هو حال الإسرايليين قبل ما يقرب من نصف قرن، فكيف بهم الآن، بعد الاحتلال الإسرائيلي والحروب التي شنتها إسرائيل على لبنان ومصر وسوريا واجتياحها للضفة الغربية وحربها على غزة وبداية تبدد الأساطير والأكاذيب الإسرائيلية، وما رافق ذلك من تغيرات على اليهود طالت كل أوجه حياتهم النفسية والسياسية والأجتماعية والاقتصادية مما يحتاج منا الدراسات والأبحاث حول ذلك كله.



أهمية القدس في اصطناع الهوية الإسرائيلية



تحتل القدس أولوية قصوى في اصطناع الهوية الإسرائيلية. وذلك لسببين رئيسين هما:

1- أن في القدس جبل صهيون الذي سميت الحركة الاستعمارية الصهيونية باسمه، وهو محل جذب للمشاعر والأحاسيس اليهودية بين الجاليات وبخاصة الجاليات في أوروبا الشرقية. ومن التاريخ التوراتي للقدس وظفت الحركة الصهيونية ومن بعدها "إسرائيل المصطنعة"، أهم الرموز التاريخية والدينية لبناء الهوية الإسرائيلية. ومن بين هذه الرموز: هيكل سليمان، وحائط المبكى، وجبل صهيون أو جبل المعبد، وعاصمة داود. وهكذا فإن الإسرائيليين يعتقدون أنه بدون القدس ورمزها ستظل الدولة المصطنعة دون شرعية تاريخية ودينية وسياسية.

2- أن في القدس المقدسات الإسلامية والمسيحية، وهي تشكل عائقاً جدياً، وبخاصة المقدسات الإسلامية، أمام هوية إسرائيلية مكتملة، وذلك أن المسلمين وهم خمس سكان الأرض يتعلقون بالقدس لانها قبلة المسلمين الأولى، وبالمسجد الأقصى لأنه أحد رموزهم الدينية العظيمة.

وقد وجد الإسرائيليون لحل هذه المسألة أن يسيروا تدريجياً في إضعاف صلة المسلمين برموزهم الدينية، وكل ما تعمله من إغلاق المدينة المقدسة أمام الفلسطينيين، وبناء المستوطنات حولها، وهدم البيوت العربية والتضييق والحصار واقتلاع الفلسطينيين من المدينة هي من قبيل إضعاف هذا الارتباط القوي بين الفلسطينيين ومدينتهم المقدسة، وضمن خطة إضعاف صلة العرب والمسلمين بالمدينة المقدسة تأتي مخططات الحفريات تحت الأقصى وصولاً إلى هدمه يوماً ما، فيفقد المسلمون رمزهم، وسينسى العالم بما فيهم المسلمون ذلك بعد فترة من الزمن، وبخاصة أن معظم الدول العربية والإسلامية لا تسمح لمواطنيها حتى بالمظاهرات للتعبير عن مواقفهم من المخططات الإسرائيلية. ومن ثم يقومون ببناء الهيكل مكان المسجد الأقصى وسيدفعون بالعواطف الدينية اليهودية والصهيونية المسيحية والسياسة الغربية إلى حشد التأييد والمساندة حتى لو احتج الساسة العرب والمسلمون، وانفعلت شعوبهم لفترة وجيزة.

ضمن هذا الفهم لاصطناع الهوية الإسرائيلية، علينا أن نقوم بحماية تراثنا وبخاصة تراث القدس التي تتعرض إلى عمليات تهويد مركزة ومنظمة وشاملة. ولا يكفي أن تكون لنا هوية فلسطينية عربية إسلامية غنية وخصبة ومتينة في رموزها المشتركة، إذ أن البطش والتعسف والإرهاب الإسرائيلي وسائر ما تقوم به إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وتراثه، والقدس وتراثها، يجب أن يستنهضنا للقيام بعمل منظم له استراتيجياته، وخططه ووسائل تنفيذه.

وفيما يلي بعض الأفكار حول ما يمكننا القيام به لحماية تراث القدس وتراثها الشعبي:

1- لا ينفصل تراث القدس عن تاريخها، ومن هنا علينا أن نهتم بكتابة تاريخنا الكنعاني بما في ذلك تاريخ مدينة القدس منذ بنائها على أيدي اليبوسيين العرب الذين نزحوا من الجزيرة العربية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، والذين بنوا قلعة يبوس التي هي قلعة صهيون أو حصن صهيون الذي يشار له في اللغة العربية بجبل المكبر أو جبل الزيتون وتعني صهيون في اللغة الحورية قلعة أو صخرة (المسيري، المجلد الرابع: 1999، 124 والمجلد الخامس:80)، وقد استولى داود على هذا الحصن، وأقام فيه وسماه مدينة داود وأصبح مكاناً مقدساً لديهم (شلبي: 1996، 135). وكذلك الهيكل الذي لا يعرف مكانه، والذي يدعي الإسرائيليون أنه في منطقة الحرم القدسي بربطه بحائط البراق الذي أصبح مقدساً لدى اليهود ابتداء من عام 1520 بعد الفتح العثماني وهجرة يهود من ذوي النزعة الحلولية أي تقديس الأماكن والأشياء، والذين أخذوا يقدسون الحائط(المسيري، المجلد الرابع: 1999، 169)، ومن ثم استعمله الصهاينة والإسرائيليون بوتيرة عالية من أجل اصطناع الهوية، كما أسلفت. ويتطلب ذلك كله منا أن نبذل جهوداً كبيرة ومستمرة لإظهار الحقائق التاريخية وتعميميها على مراكز الأبحاث والجامعات في العالم كله، بعد أن روجت الصهيونية وروج الإسرائيليون أباطيلهم وأساطيرهم بلباس علمي أكاديمي في العالم كله رغم زيفه الذي بدأ يتكشف بتواضع لدى الباحثين الغربيين أيضاً.

2- مَنَحَ الثراء التاريخي والديني للمسلمين والمسيحيين في القدس ثراءً في التراث الرسمي متمثلاً في الأماكن المقدسة، وفي الأسوار والأبواب، والبيوت والحارات وكل ما يميز مدينة القدس عن غيرها من المدن ويمنحها هويتها الفريدة، ويجب أن نضاعف الجهود في تقديم هذا التراث للعالم بصورة تليق بأهميته وعراقته وعروبته.

3- من الطبيعي أن يعبر هذا التاريخ وهذا التراث الديني الإسلامي- المسيحي عن نفسه في التراث الشعبي من عادات وتقاليد وقيمٍ وأغانٍ وحكاياتٍ ومعتقداتٍ شعبيةٍ وسواها من حقول التراث الشعبي، ومن هنا علينا أن نبدأ بجهود كبيرة في تدوين هذا التراث الشعبي ودراسته.

4- في القدس تنوع وثراء في التراث الشعبي ناتج عن التنوع السكاني، ففي القدس إضافة إلى العرب المسلمين والمسيحيين هناك جاليات من الأرمن والمغاربة والأكراد والهنود وسواهم، ولكل هؤلاء تراثهم الشعبي الخاص، ولهم تراثٌ مشتركٌ مع بعضهم البعض، ويتطلب ذلك منا الاهتمام بهذا التراث المتنوع الذي يمنح القدس بعضاً من ميزاتها.

5- يجب أن يكون اختتام الاحتفالات بالقدس عاصمة للثقافة العربية هو البداية، وليس النهاية في تطوير العمل المتنوع لحماية التراث المقدسي. ويجب أن تتمثل هذه البداية بإنشاء مركز خاص للدراسات والأبحاث المتعلقة بالقدس.

6- أن يقوم مثل هذا المركز بالتنسيق مع الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات ذات العلاقة بأبحاث حول القدس وتراثها كي يكون العمل منظماً وممنهجاً.

7- أن يتولى المركز اختيار وتأهيل كوادر عمل ميداني، للقيام بجمع ما يمكن جمعه من التراث الشعبي لأهالي مدينة القدس.

8- أن يتم بناء أرشيف أليكتروني للمواد التي يتم جمعها كي يطلع عليها المواطنون ويستفيد منها الباحثون أينما كانوا.

9- أن تتم ترجمة ما يراه المركز مهماً من المواد المؤرشفة ومن الدراسات الجادة وباللغات المناسبة، للتعريف بقضية القدس وتراثها في غير العالم العربي أيضاً.

10- أن تتولى المؤسسات كل حسب اهتمامها وتخصصها بالقدس القيام بأعمال إبداعية كي نخلق نوعاً من الثقافة الوطنية حول مدينة القدس وأهميتها من كافة النواحي، وبخاصة للأطفال وللأجيال الشابة التي لا تعرف عن القدس غير ما تسمعه في نشرات الأخبار.

11- تنويع الوسائل التي نعرض فيها تراث القدس، إذ أنه وفي ظل التقدم التقني يمكن استعمال الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، ولكل من هذه الوسائل وسائلها الفرعية المتنوعة ايضاً.

12- أن نطلب من الأمم المتحدة ووكالاتها وبخاصة منظمة اليونسكو العمل على حماية التراث المقدسي في جانبيه المادي والمعنوي.

إن العمل لحماية تراث القدس وأهالي القدس لا يجب أن يتوقف عند حدود الاحتفالات والتصريحات والخطابات، بل يجب أن يتحول إلى عمل ممنهج، وإن استطعنا فعل ذلك، واستطعنا أن نتجاوز في مؤتمراتنا، الخاتمة التي تنتهي بالتوصيات، والتي أصبحت تقليداً ليس أكثر، وأن نبدأ بالعمل من أجل تنفيذ التوصيات ومراجعة الأوراق، عندها سنكون قادرين على الدفاع عن القضية العادلة للقدس بدلاً من الفرجة أو مجرد النقد والسخرية المُرة لما يقوم به الإسرائيليون من عمل ممنهج قائم على التضليل والتزوير والكذب والأساطير، فهل سنفعل ذلك؟ أم سنحافظ على تقاليدنا بنسيان ما نقوله بعد انفضاض المؤتمرات؟.

المراجع

الخيري، فيصل مدن فلسطينية-آثار تتحدى الأساطير، د. ن.

2004

السواح، فراس مغامرة العقل الأولى، ط 10، دار علاء الدين، دمشق.

1993

شلبي، أحمد مقارنة الأديان-اليهودية، ط 11، مكتبة النهضة المصرية.

1996

المسيري، عبدالوهاب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلدات: 2 -5، دار

1999 الشروق، القاهرة.

يوسف، يوسف خوذة كنعان والتوراة، وزارة الثقافة، عمان.

2005



إذا كنت مؤلف هذه  مقال وأردت تحديث المعلومات، انقر على ازر التالي:

ملاحظة

مضمون المقالات، المقابلات، أو الافلام يعبر عن الرأي الشخصي لمؤلفها وفلسطين في الذاكرة غير مسؤولة عن هذه الآراء. بقدر الامكان تحاول فلسطين في الذاكرة التدقيق في صحة المعلومات ولكن لا تضمن صحتها.

 

شارك بتعليقك

 
American Indian Freedom Dance With a Palestinian


الجديد في الموقع