كي تحصل على صورة في حجم البطاقة البريدية عن أحد معالم الجحيم، تستطيع التوجه إلى مسافة 4 كيلومترات من الطريق 585 جنوب مدينة يعبد جنوبي الضفة الغربية. ولتحصل على صورة مقربة، ادخل أحد مواقع صناعة الفحم النباتي على جانبي الطريق. ولن يمكث هنا دون داع سوى القلة القليلة.
دوامات الهواء مشبعة بالخشب والقش المحترق، والأبخرة والروائح الكريهة التي تلتصق بالفم، وتعتصر الرئتين، وتجعل العينين تغرورقان بالدموع. والزوار، أو القليل منهم الذين يتوقفون بالمكان، يغادرون بمجرد شراء كيس من الفحم. أما عمال المناجم، بما في ذلك حوالي عشرين لاجئ مسجلين لدى الأونروا، لا يمكنهم مغادرة المكان. أو على الأقل لا يستطيعون إلى ذلك سبيلا في ظل هذه الأوقات الصعبة إذا رغبوا في اكتساب قوت يومهم.
تبيع شركات الفحم في يعبد منتجها إلى المطاعم والمحلات في أرجاء الضفة الغربية. وقبل الانتفاضة، كانت تورد الفحم لزبائن إسرائيليين أيضا. وتعد مناجم الفحم، التي تتعثر الآن في ظل الجدار الإسرائيلي، الملجأ الأخير لعدة مئات من الفلسطينيين الذكور الذين يتوقون للعمل في ظل اقتصاد متعثر. وإذا توفرت لهم فرصة عمل آخر، فإن العمل بالمناجم لن يكون عملهم المختار.
يكتنف هذا العمل القاذورات والمخاطر والحرارة والخطر الصحي الكبير على المدى الطويل. حيث يعمل عمال المناجم 24 ساعة يوميا في نوبات غير منتظمة تهدف إلى السيطرة على النيران التي لابد من تنظيم إمدادها بالأكسجين بعناية للحيلولة دون تعرض الخشب أو الفحم للاحتراق الكامل. وإذا استمرت النيران في الاحتراق، فان أكوام الخشب والفحم ستتحول إلى بخار.
ثلاثة أفراد من أسرة أبو بكر لاجئون مسجلون لدى الأونروا من منطقة يعبد. ويعمل عمر، 21 عاما، في مناجم الفحم منذ سبع سنوات. وانضم إليه محمود، 20 عاما، منذ شهر بعدما فقد عمله بالإنشاءات في إسرائيل. ويعمل أخوه معين، 24 عاما، في المناجم منذ عدة سنوات. وعلى الرغم من وجود منازل أسرهم في يعبد التي يمكن رؤيتها عبر الطريق، أو عنين التي تبعد 12 كيلومترا ناحية الشمال، يعيش الثلاثة في أكواخ مغطاة بالصفيح والأوساخ بالقرب من الأكوام المحترقة. ونادرا ما يغادرون المكان.
الأجور متدنية، 50 شيكل يوميا لنوبة تستغرق 24 ساعة. ليست هناك إجازات أو وقت إضافي أو تأمين. وإذا تعرض عامل للمرض، ويتوقع أن يعاني الكثير منهم من أمراض تنفسية، فان عليه معالجة نفسه. وعندما تعرض معين لحرق شديد أثناء عمله ليلا اضطر إلى دفع تكاليف علاجه، وتعرض للبطالة دون دخل مطلقا لمدة سبعة أشهر.
وتتمثل المساعدات الخارجية الوحيدة التي يتلقونها في الطحين والأرز وزيت الطبخ والسلع الغذائية الأخرى التي يحصلون عليها من برنامج المساعدات الطارئة للأونروا كل ثلاثة أشهر. وتصل هذه المساعدات إلى منازل أسرهم.
ولا يعني هذا أن مالكي مناجم الفحم الفلسطينيين متحجرو القلوب. فبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الانتفاضة، تدنى العمل بنسبة 80% طبقا لأحد التقديرات، واشتد هذا التدني سوءا منذ إقامة الحاجز الإسرائيلي لمسافة بضعة كيلومترات نحو الغرب.
أضر الحاجز بالتجارة الفلسطينية والإسرائيلية على حد السواء. حيث تعتمد صناعة الفحم على التوريد المنتظم لوقود الخشب الجاف، إذ أن خمسة أطنان من الخشب تستخدم في صناعة طن واحد من الفحم، ويأتي الفحم كله من إسرائيل. وتكلف حمولة خشب الموالح والأفوكادو والأوكالبتوس الآن ضعفي التكلفة قبل الانتفاضة. وهناك أيضا تكلفة المياه المستخدمة في تبريد الأكوام، والتي بلغت حوالي 20000 شيكل سنويا بأحد المناجم.
اعتاد فلسطينيون كثيرون في منطقة يعبد على اكتساب دخل منتظم من قطع الأخشاب في إسرائيل. ولا يتمكن الآن من الحصول على هذه الوظائف سوى القلة من حاملي الهويات الإسرائيلية. وعمل الآخرون في عشرات مناجم الفحم في يعبد عندما كان العمل منتعشا، وقد أغلقت المخازن الآن وأضيف العاملون فيها إلى قائمة العاطلين عن العمل.
كما هو الحال مع تكلفة الفحم الجاف، تضاعفت تكاليف النقل. وتفتقر معظم السيارات الفلسطينية إلى التصاريح المطلوبة لعبور الحاجز إلى داخل إسرائيل، ومن الضروري أن تقطع الناقلات المسجلة لدى إسرائيل مسافات أطول بسبب نقاط التفتيش، مما يستغرق المزيد من الوقت والوقود. علاوة على ذلك، يتعين على مديري مناجم الفحم الفلسطينيين تسديد 17% ضريبة على الخشب الذي يشترونه من الموردين الإسرائيليين، وضريبة مبيعات إلى السلطة الفلسطينية على الفحم المباع في صورته النهائية في الضفة الغربية.
الإسرائيليون الذين كانوا يشترون الفحم من يعبد ذات مرة صاروا يشترونه الآن من الأرجنتين والبرازيل، على حد قول أحد مالكي المناجم. وهناك عدد قليل من الزبائن داخل الضفة الغربية. ومنذ سنوات قليلة، كان هناك حوالي 150 منجم فحم صغير توظف حوالي 1500 فلسطينيا، منهم لاجئون كثيرون، عبر الطريق 585؛ أما الآن فهناك حوالي 30 منجم فحم يعمل فيها أقل من 300 شخص. وتكافح هذه المناجم المتبقية من أجل البقاء. ويقول أحد الملاك أنه يتعين عليه تسديد ثلثي أرباحه إلى رجال الأعمال في يعبد الذين يمولون مقدما عمليات شراء ونقل الفحم وتكاليف التشغيل الأخرى.
في ظل هذا الشرك الاقتصادي وحقيقة أن مالك المطعم يدفع 4 شيكل، أقل من دولار أمريكي، لقاء كيلوجرام الفحم، فان هذا العمل الإقليمي مهدد بالانقراض. ويتكبد الثمن الباهظ العمال من أمثال أسرة أبو بكر الذين يعملون ساعات طويلة عوضا عن الآخرين الذين تم تسريحهم.
إلى متى سيواصلون القيام بهذا العمل؟ سؤال يدعو للضحك. ويقول عمر: "ربما تتحسن الأمور ونستطيع الرحيل."
شارك بتعليقك
وطبعا احنا اكتر بلدة بفلسطين منتجين للفحم
اخ رامي \ امجد هاي الايميل تبعي اذا حابين تتواصلو
[email protected]