بـسم الله الرحمن الرحيم
أعزائي ابناء فـلسطين الحبيبة في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد سمحت لنفسي بأن استعير مقتطفات من (كتاب فـلسطين) لأبن ألوطن
السيد. محمود عبد الحفيظ الزيتاوي جزاه الله كل خير وثواب على مجهوده وغيرتة
وحبه لهذا الوطن.
وهو كتاب غني بالمعلومات القيمة التي توثق الكثير من عادات وتقاليد اهل قرى فلسطين وبالأخص قرية زيتا جماعين. وشكراَ
أبن زيتا. رائع شفيع عبدالرحيم عبدالجبار المـشني
[email protected]
--------------------------------------------------------------------------
الـجزء الـتاسع عشر.
الملح في المعتقد الشعبي:-
أن التعاون في مختلف الجوانب المعاشية من ركائز الحياة البيئية القروية والبدوية وما يهمنا التطرق إليه هنا هو شيوع استعارة الأواني في المناسبات بل والألبسة أحيانا واقتراض الخبز والحبوب وغير ذلك كثير وفي أحيان كثيرة يمتنع الناس عن استرداد ما اقرضوه لأنهم سيتعرضون لموقف مشابه في يوم أخر ويمكن التسامح في هذه الأمور جميعا ما عدا الملح فالمرأة تأبى إلا أن تعيد مقدار منه مساويا لما أقترضته مؤكدة على القول الدارج (الملح ثقيل) ولا يقصد هنا الثقل الوزني وإنما التبعة في الدنيا والأخرة وهذا ما يجعل الناس يقسمون بالملح قائلين (وحق الملح) ويبدوا أن هذا القسم مغرق في القدم كما يلمح فيما ذكره لسان العرب (العرب تحلف بالملح والماء تعظيما لهما)
وكان من عادة العرب وخاصة النساء في كثير من المناطق في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن في الأرياف والبوادي خاصة أن يضعن صرة صغيرة من الملح في كيس الطحين لحفظ البركة
وكان من عادة الفتيات أيضا أن يصررن في طيات ثيابهن يوم العرس أو يوم الطهور مثلا قليلا من الملح ليضفي عليهن مزيدا من الملاحة وليرد الشر عنهن ويبدوا أن هذا هو الدافع وراء نثر الملح على العريس والعروس أثناء الزفة وهي عادة شائعة في بلاد الشام وحتى في مصر وغيرها من البلاد العربية بالإضافة إلى دوافع اعتقادية أخرى مثل إذابه الملح بكوب ماء ورشه في المكان الذي يقع فيه الطفل ويبدوا أن هذا الاعتقاد يحمل على فكرة الممالحة فتقديم الملح لسكان الأرض (الجان) يؤدي إلى ارضائهم وعقد معاهده معهم تضمن سلامة أي طرف من أذى الطرف الأخر ولعل هذا ما يفسر وضع صرر صغيرة من الملح في أركان البيت وهناك سلوك اعتقادي يستحق التأمل مثل طرد العين الحاسدة من محسود تقرأ المعوذة بعض التعاويذ على المصاب بالحسد وهي تمسك قليلا من عروق الميرمية الجافة ثم تضعها مع قليل من الملح في وعاء معدني تعرضه للنار أو تضع فيه بعض الجمر فينتشر دخان الميرمية ويفرقع الملح أملا أن تفرقع العين الحاسدة مثل فرقعته
وأيضا عادة تميلح الوليد في فلسطين المستمرة إلى اليوم فبعد ولادة الطفل ذكر أو انثى يغسل بماء الملح لمدة ثلاثة أيام كل يوم مرة وذلك لتطهير جسم المولود بالملح كما تشير دورة الذي عن الطفل المولود
وأيضا هناك عادة فيها علاقة الملح بالنجوم ومنازل الأبراج فمن عادة القرويين في أواخر الصيف وفي موعد محدد أن يكوموا كومات صغيرة من الملح تشبه البيادر بعدد شهور السنة وترتب في صينية واحدة مناسبة الاتساع وتوضع في كل كومة علامة معينة بعد تسمية الكوام بأسماء الشهور وتوضع في مكان مكشوف عرضة للنجوم والندى وفي صباح اليوم التالي قبيل شروق الشمس يهرعون لتفقد أكوام الملح ومن الطريف أن تجد بعض الأكوام قد تشبع بالندى وسال بينما تجد جوارها اكواما ظلت جافة أو نالها قليل من الرطوبة فيربطون بين حال الكومة وبين كمية المطر التي يتوقعون أن تهطل في ذلك الشهر .
الملح والملاحة في الأدب الشعبي
من الأمثال الشعبية الشائعة في بلاد الشام عامة قولهم (فلان ملحة على ذيله) أي لا يحفظ الجميل والذيل كما هو معروف طرف الثوب مما يلي الأرض وهو الأكثر اهتزازا وتعرضا للاحتكاك أثناء المشي ومن المتعذر أن تعلق به مادة الملح زمنا طويلا كما يلمح المثل الى طبع الانسان غير الوفي والذي لا يرجى وفاؤه فحاله حال من وضع الملح على ذيل ثوبه والذي سينثر عند أول حركة ولا يعلق منه شيء .
ويقال أيضا (فلان ماله ملح) أي لا يؤثر فيه الملح فلا يؤمن جانبه ولا يرجى خيره أو يقولون (فلان ملحاته ميه) أي أنه رجل كريم لكنه صنعه يضيع في الآخرين وكأنه ماء لا يلبث أن يتبخر ومن الأمثال الطريفة التي ربما جيء بها لتكون أشبه بقانون طواريء لتفرض الاستقامة على المتجاوزين قولهم (الخوف ملح الرجال) والمقصود بالمثل أن الذي يعتدي على حقوق غيره ولا يجدي معه الاقناع لا بد من اشهار القوة الرادعة في وجهه ليذعن للحق فيغدوا عند ذلك مليحا
ومن المعتقد الشعبي في مصر ما يغنى في زفة الوليد في مصر بعد مرور أسبوع على ولادته فيدور الأطفال حاملين الشموع وراء الداية أو القابلة وهي تقول
يا ملح دارنا كثر عيالنا
يا ملح دارنا كثر صغارنا
وقد كان الملح من السلع الداخلية الهامة في المنطقة فكانت قوافل الإبل المحملة بالملح تنطلق من شبة الجزيرة العربية وغيرها الى مناطق عديدة من بلاد الشام فتبيعه أو تقايضه بالقمح لكن هذه التجارة كانت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من المحظورات فتتم بالتهريب غالبا وتسري الرشاوي في عملية التصريح لدخول الملح للبلاد .
ولأهمية الملح استلهمه الناس في القيم الاجتماعية والجمالية فالشهم الطيب من الرجال يوصف بالمليح وجمعها الشعبي (الملاح) فالسجايا الطيبة التي يتمته بها هؤلاء تنعكس في صنيعهم وتضفي عليهم تقديرا يستر ما في صورهم من عيوب أن وجدت فيبدون للعين بما صنعوه جميلين مليحين وكما قال الشاعر عمرو بن معدي كرب في قصيدته
ان الجمال معادن ومناقب أورثن مجدا
والمليحة من النساء ذات الحسن وهي صفة شائعة في الأدب الشعبي وقد وردت في أغنيات كثيرة واشعار ومن ذلك ما يقال في اغاني الزفاف : يأخذ المليحة ؟قولو لـ فلان ياخذ المليحة
وملاحة العين في لسان العرب (الزرقة إذا اشتدت حتى تضرب إلى البياض) لكن هذا التخصص غير وارد في الأدب الشعبي الذي يرى الملاحة بمعنى الحسن عامة
الأطفال والأدب الشعبي
عندما ترجمت كليلة ودمنه لأبن المقفع وألف ليلة وليلة إلى الأدب الوروبي أحدثت ردود فعل كثيرة فأخد منها الكتاب والأدباء وتاثروا بها في الكتابة الأدبية وخاصة كتابـة قصص الأطفال فهل أولينا نحن العرب قصص الأطفال عناية مماثلة ؟ أن الانتاج العربي الأدبي يمكن وصفه في ثلاث ألوان وكل لون خصائصه المميزة :
1. الأدب الرسمي : هو أدب الصفوة وأصحاب المراكز الرفيعة والمستويات العليا سواء في الغنى أو السياسة أو الثقافة فلا بد للأدب أن يتخير موضوعا من الموضوعات التي تدخل في دائرة إهتمامهم وأن تصوغه في لغة فصحى ويتحرى أقصى درجات الفخامة والاناقة والتصنع ويدخل في ذلك اللون من الأدب كل شعر المديح والهيجاء والذي يشغل العصور الأولى من تاريخ الأدب العربي وكذلك يدخل تحته شعر المناسبات ولما كان هذا الأدب لا يدخل في اهتمام عامة الناس بل انهم لا يعيرونه أهتماما وأما أصحابه من ذوي النفوذ والسلطان فيضعونه في كتب فوق أرفف المكتيات ثم يأتي الاستعمار الثقافي ليفرضه على الدراسات الأدبية ويقر له وحدة الميدان في المدارس والجامعات مدعيا أنه الانتاج الوحيد للقريحة العربية وللون الوحيد الذي يمثل العرب الأقدمين .
2. الأدب العامي : هو ذلك اللون من الأدب المحصور في نطاق اجتماعي ضيق يقدم نفسه لعدد قليل من البشر مجتمعهم لهجة لغوية واحد فلم يفهمه أصحاب اللهجات الآخرى لنفس اللغة ولا يهتم إلا بالأحداث اليومية الجارية لتلك المجموعة فيبتعد عن الوجدان الانساني العام والمشاعر البشرية المشتركة .
3. الأدب الشعبي : هو الأدب الذي يصل إلى الشعب بكل طبقاته ومستوياته وأفراده أو هو الأدب الذي يختاره الشعب حيث يجد انه يعبر عن شعوره العام ويؤدي مهمات الفن في الحياه التي تبدأ بنقل التجربة الوجدانية ونتتهي بالتسلية والترفيه وهو نتج أساسا باللغة العامية حتي يستطيع الوصول إلى جميع الأفراد ولا بأس أن تتناقله كل جماعة بلهجتها الخاصة وأن استمر محتفظا بخصائصه الشعبية .
الأدب الشعبي
أن صاحب الأدب الشعبي لن يتمتع للأسف بهذا القب لأن سمات الأدب الشعبي لا تتحقق إلا بعد زمن طويل ولن ينعم بعد مماته لأن الأدب الشعبي لا يحفل كثيرا بشخص قائله وأنما بترك نفسه لطبقات المجتمع من الشعب المختلفة يشكل كل منهم طبقا لاحتياجاته ويدخل عليها من التغير والتعديل والتبديل والاضافة والحذف ما يلائم بيئته ومتطلبات حياته ومقتضيات عصره فإلى أيهم يتجة الأدب الشعبي في بداية انتاجه.
إذا أراد الأدب الشعبي أن يصل إلى الشعب بأكمله فلن يتجه إلى صفوة المثقفين مثلما يفعل الأدب الرسمي فسيعلق فهمه على العامة من المتعلمين وغير المتعلمين وفي حين إنه إذا توجة إلى عامة الشعب بامكانياته الفنية فسوف يستطيع جذب أصحاب الثقافة على اختلاف مستوياتهم ، وكذلك لن يحاول أن يكون في مستوى الكبار فيفقد الأطفال ومن هم في مراحل الصبا والشباب وهو نصف الشعب ولكن يمكنه أن يتجه للصغار ويفتن الكبار في نفس الوقت .
وهذا ليس غريبا علينا الآن في حياتنا المعاصرة فالسيرك والملاهي وحدائق الألعاب تنشأ للأطفال أساسا ومع ذلك فإن إقبال الكبار عليها الذين يؤمونها عشرة أضعاف الأطفال وقد وجد والت ديزني مبتكر الرسوم المتحركة والذي أنشأ في أمريكا مدينة الملاهي الشهيرة (عالم ديزني) .
وأن الفلوكلورين يرجعون بداية علم الفولكور وتسميته بهذا الاسم إلى العالمين الألمانين الأخوين جريم وليم ويعقوب وذلك من خلال كتابهما (حكايات البيوت) وهذه الحكايات هي قصص الأطفال ثم كتاب ألف ليلة وليله الذي يعتبر درة الأدب الشعبي العربي أليست حكاياته هي التي كانت تحكيها الجدات والأمهات للأطفالهن ؟
وانها كانت حتى الجيل الماضي الزاد الثقافي والمتعة الوجدانية التي لا يرضى عنها الطفل بديلا ولا ينام إلا بعد أن تسمع واحدة من تلك الحكايات مهما تكررت عشرات المرات بل وربما تعلق بواحدة منها فيطلبها دائما لتحكي يوميا إذ أن تلك طبيعة الطفل ، وأما الذين يبحثون في أزمة الشباب المعاصر فإن أحد أسبابها حرمان الطفل من الأجيال الحديثة من هذا الزاد الوجداني التربوي منذ أن انقطعت المرأة عن أطفالها وانشغلت عن بيتها وأطفالها دون أن تقدم لهم البديل المناسب فقد الأطفال متعة الأدب الشعبي وفقد الأدب الشعبي أرضا كان مسيطرا عليها وإذا كان الأدب الرسمي أدبا ثابتا يتطلب سلامة النص وتوثيق الأصل وصحة النسب فإن الأدب الشعبي متغير ومتطور لا يبقى على حال واحدة بل يغير شكله من عصر إلى أخر ومن مجتمع لأخر ومن بيئة لأخرى ومن مجال إلى مجال اخر فالحكاية الشعبية مثلاا قد يكون لها أصل مدون في كتب الثرات لكنها تحكى بطريقة مختلفة متعددة تتناسب كل منها زمن حكايتها والبيئة التي تحكى فيها وكذلك حال المتلقين ويقسم علماء الفولكلور الحكاية الشعبية إلى عديد من الألوان الحكاية الخرافية والمسلية أو حكايات الجان وحكايات الخرافة الحيوانية ثم يأتي ألوان أخرى مثل الحكايا الغرامية والحكاية الخرافية والحكاية التعليمية والحكاية الأسطورية وغالبا ما يكون اللون الأساسي هو حكايات الجان وحكاية الحيوان هكذا أفادني استاذنا القدير الاستاذ الدكتور عمر عبد الرحمن الساريس أستاذ الأدب العربي في جامعة الزرقاء الأهلية أكرمه الله وهو المتخصص الحكاية الشعبية وألف فيها الكتب ودرس بها ابناؤه الطلبة وهما يشكلان أدب الأطفال ويستطيعان الوصول إلى الكبار ثم إلى المثقفين والدراسين وتلك شيمة الأدب العربي الشعبي وقد كان الفنان ابن المقفع فولكلوريا بالسليقة حين قال في مقدمة درته الخالدة (كليلة ودمنه) وينبغي للناظر في هذا الكتاب ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان فتستمال قلوبهم لأنه احتوى على النوادر من حيل الحيوان والثاني اظهار خيالات الحيوان يضيف الأصباغ والألوان ليكون أنسا لقلوب الملوك ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك العصور وفي تلك الصور واللوحات الممتعة .
أليست هذه سمة من سمات الأدب الشعبي الذي يقدم لجميع أفراد الشعب على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم فيجد كل منهم ما يناسبه من غذاء روحي ويغترف به ما يروم من مهمات الفن في الحياه ؟
نحن العرب للأسف الشديد حاكمنا ليالي ألف ليله وليله ووجهنا إليها تهمة افساد الخلق والحض على الرذيلة وأهملنا كليلة ودمنه واعتبرناها تراثا لا يتمشى مع العصر فيبقى الأطفال دون زاد ثقافي قومي يعطيهم الدفعة الوجدانية التي تتطلبها الحياة ويمنحهم القدره على مواجهة ذلك الغزو الاستعماري الثقافي واليوم حين يستشعر بعضنا هول ما آل إليه حال شبابنا واطفالنا من ضعف ثقافي وما ظهر من أثر ذلك على سلوكهم وقيمهم واخلاقياتهم راحوا ينشدون العون من الشرق والغرب ويطالبون بالنقل عنهم وترجمة كتبهم وفاتهم أنهم بذلك يمكنون لثقافتهم الاستعمارية من التغلغل في وجداننا ويحطمون أسمى ما يتطلبه بناء الانسان العربي ولم يدري يخلد هؤولاء أن لنا ترثا عربيا ومن واجبنا احياؤه وتقديمه غذاء روحيا قوميا لهؤلاء الناشئة ، وأن هذا التراث قادر على ذلك أمن عليه كان التبع الذي استقى منه الغرب الأوروبي ثقافته بعد أن عرف كيف يستفيد منه الاستفادة المثلى ويضعه يناسب بيئته وتحقيق أغراضه .
نـهاية الـجزء الـتاسع عشر.
شارك بتعليقك