كنتُ هناكْ
ما الذي أتى بي الى هنا، وقد كنت هناك، في أزقة القرية النائية أحلم بالفردوس، أقطف منه زيتوناً أقتات به من ضنك السنين، أعصره زيتاً أدلك به جسداً أنهكه الركض وقلة التدليل، أغمس أرغفة التنور ببقاياه وأضيء قنديل الليل الطويل.
أحلمُ كثيراً بالتفاصيل القليلة الباقية في ذاكرتي، كنتُ هناكَ، وجئتُ هنا، والسؤال الذي يغوص عميقاً في قلبي، هو ما الذي أتى بي الى هنا، وهناك كنتُ أرعى مع الأيائلِ في حضنِ الجبل، أو في سهولٍ كلما أمتدت بعيداً نحو الأفق، زاد الدفء حولي.
أحبُّ ذلك المكان الطري في ذاكرتي، وأحبّ أن أمضى حافيّة وأدخل حلمي الأول، والطري، والأنيق.
كنتُ هناك..!
لستُ مندهشة كثيراً، وأنا أتصفّحُ القاموس المحيط، والذي يخبرُ أن الكلمة الموازية لاسم قريتي البعيدة، عرابة: شجرة تُفْتَل من لحائها الحبال، صحيح أن الكلمة في القاموس، لا تتطابق مع اسم قريتي بالكامل، فعرّابة مشددة الراء، بينما كلمة القاموس حرّة من التشديد، لكنّ ذاكرتي ترشدني إلى قريتي التي مشيتُ فيها حافيّة حين كان عمري ثمان سنوات، انطلقتُ حول أشجارِها التي تتشابكُ كخيطٍ أخضرَ، مثلها مثل كلّ قرى الضفّة المرتديّة أخضرها الأنيق.
كنتُ هناكَ، تحرسني طفولتي..
عرّابة الفاتنة، تقع جنوب غربي مدينة جنين وتبعد عنها 13كم، يصل إليها طريق معبد يتفرع عن طريق الرئيسي نابلس - جنين وطوله 1كم يحدها من الشمال سهل عرابة والكفيرات ومن الجنوب فحمة وعجة ومن الشرق قباطية ومركة ومن الغرب صيرا، ترتفع عن سطح البحر 400م، تبلغ المساحة العمرانية للبلدة حوالي 2700 دونم، ومساحة أراضيها الكلية 39900 دونم، ويمتد جزء من هذه الأرض إلى المرتفعات في جنين، ويمتد الجزء الآخر إلى السهول، تشغل الزراعة مساحات واسعة من أراضيها وبخاصة زراعة الأشجار المثمرة كالزيتون واللوزيات وتتركز زراعة الخضراوات والحبوب في الأراضي المنبسطة. بلغ عدد سكانها عام 1922م حوالي 2196 نسمة ارتفع إلى 3810 نسمة عام 1945م، وبلغ عدد سكانها عام 1967م حوالي 4200 نسمة، تضاعف إلى 6100 نسمة عام 1987م.
لن أندهشَ أيضاً، وأنا أرى قريتي تعانقُ السّماءَ ممتدّة فوقَ جبال جنين، وتنحدرُ في جزءٍ منها كسهلٍ أخضرَ يمنحها تدرجّاً مختلفاً!
كنتُ هناكْ.. ذات طفولَةٍ. وها أنا هنا أنثى ملأى بالحنين!
عرابة التي شهدت ولادة أبي.. لكن القدر لم يكتب له أن يوارى بعد غيابه تحت أشجار زيتونها الذي طالما تغنى بها وهزه الشوق اليها.. حتى بتنا نحفظ حواريها وحكاياها وأهلها عن ظهر قلب لكثرة ما جادت به أشواقه وقريحته في الغربة عنها.
أورثني أبي، عرّابة، وشوقَه لها، وأخبارَها، وأسماءَ جيرانِه، أورثني ذاكرته المجروحة.
كنتُ هناكَ، وأحملُ عطرَها الأبديّ، أحملها في أعماقي حباً وحنينا وحسرة مثلما تحمل شجرة الصبارَ أشواكها متحدية القيظ والمنفى.. كيف لا وفي آخر زيارة لها.. وكنت في الثامنة من عمري.. اندفعت من السيارة التي أقلتنا إليها راكضة أعانق الصبارَ لأقطف ثماره التي أحبها حتى الآن.. في ذلك اليوم بكيت من الألم.. ولم أكن أتصور بأنني سأظل احمل الذكرى والشوك في قلبي إلا حين كتبت هذا النص:
حين أفكر بالموت في المنفى
تنتابني رعشة سرية
لا يحسها
إلا من نحتت الأشواك على جسده
خارطة للوطن
شارك بتعليقك