كرت المُؤَن ( الصّندقة )
بقلم : أيمن عبد الحميد الوريدات .
الأردن ؟ الزّرقاء
((يا رجل والله ما كان حدا فينا شاطر إلاّ أبو عوض ، الله عوّض عليه وقدر يسجل في كرت المؤن 19 نفرًا ، إللي ما رزقه الله فيه عن جد ، رزقه إياه بالهركت )) بهذه الكلمات كان مجموعة من اللاجئين الّذين فقدوا كلّ شيء يتحدّثون ، فهم لم يبق لهم إلاّ الأمل بالله ، ثمّ بكرت المؤن ، هذا ما كانوا يقولونه ، وإن لم تكن تعلم ما كرت المؤن فهو كرت أبيض عريض بعرض كفّ اليد الواحدة ، مطبوع عليه أرقام متسلسلة هي عنوان مجموعة من الناس يطلق على واحدهم النفر ولشدة إعجابهم به أو ربّما حبّهم له كانت النساء تصرّه في صدروهن ، وهو كرت محترم مبجّل صادر من هيئة دوليّة ذات أهداف إنسانيّة ، تسمّى هيئة وكالة الغوث، أمّا استعماله يا حفيظ السلامة فيكون مرة في الشهر ، هذا إن كانت الأمور على ما يرام ، وإن كان في الأجواء غيوم سياسية أو ما شابه تأخر استعماله ليطول أحيانا ويصل إلى أشهر ، إليك الآن رحلة فاطمة وكرت المؤن :
خرجت فاطمة فجرًا مع صوت المؤذن ، والتقت أوّل الزقاق مع ثلّة من اللاجئات اللواتي يحملن كرت المؤن فئة (سبعة نفر) ، ليقمن برحلة شبه ترفيهيّة إلى مقرّ توزيع المؤن ( الصندقة ) الّي تقيمه الأمم المتحدة خارج المخيم ، كانت كل واحدة منهن تحمل ثلاثة أكياس فارغة وخريطتين من القماش ، وإبرة كبيرة وخيوطًا لتخييط الأكياس بعد ملئها ،وسلة بلاستيكيّة وتكون قد تأكّدت سبعين مرّة ومرة أنّ المبجّل
( كرت المؤن ) في الحفظ والصون ، وكنّ يلبسن الأثواب المطرّزة بالحرير ، هذا الثوب الّذي يوحي لك بعزّ مسلوب . تجمعت النساء وبدأن ينتظرن ( أبو سعيد ) صاحب السيارة ( البكم) الذي اعتاد اصطحابهن إلى مركز المؤن ، والبقاء معهن حتّى انتهاء رحلة التسّوق المجانيّ التي يقمن بها ، لحظات وحضر ، صعدت النساء في الصندوق ،وبدأت رحلتهن الّتي تستغرق عشرين دقيقة ، في السيارة أو في صندوقها حيث الهواء العليل ،والفرجة المجانيّة على أسواق المدينة ،في هذه الأثناء يطيب لهنّ الحديث عن ماض سلف ؛ فهذه تحدّث عن بيّارات والدها في يافا باعتزاز وزهو وحسرة ، وتلك عن بيتها الواسع وما يحيط به ، وما في داخله من أثاث وما آل إليه بعد النكبة ، ، وأخرى تتذكّر مئات الدونمات الّتي كانت تمتلكها وهي تعيش الآن في صفيح ... وسط هذا كلّه تطلق إحداهن صفارة انتهاء الحديث بقولها : الله لا يوفّق أولاد الحرام ، ويكون الرّد الموحد : (( آمين ، يكسر جاههم ، يشردهم مثل ما شردونا و ... )) . وصل موكب زائرات المؤن إلى المكان ، وكان في استقباله بعض السماسرة الّذين يعرضون خدماتهم : نستلم لكم المؤن وعلى النفر خمسة قروش ، وآخر نستلمه بثلاثة أوبقرشين و... ، مع هؤلاء النساء لا يحصلون على ما يريدون لأنّهن تجشمن عناء الطريق ووصلن إلى هنا ، أخذت كلّ واحدة منهن مكانها في طابور طويل بطول يوم الجمعة ، وسط صياح مَن في أول الطابور ومَن في آخره أن يلتزم الكّل الدور والنظام ، ووسط نصائح بعض الناصحين ؛ ما ضاعت البلاد إلاّ لأننا ما تعلمنا النّظام ، لما نصير نعرف النظام ننتصر ، كيلوات السكر والأرزوالطحين وعلب اللحمة والسمنة والصابون والحليب المجفّف ، وصرة ( بقجة ) فيها بعض الملابس ، كلّ هذه الأمور تستحق العناء الّذي يبذل ، والعرق الّذي يزرب زربًا من الأجساد ، أجساد عانت وستعاني ، تنظر من آخر الطابور فلا ترى بدايته ، ترى الخارجين مبتسمين وقد حصلوا على مبتغاهم ، وتسمع عبارات من مثل : هذا الشهر ما في علب لحمة ، فيرد بعض الواقفين : ((أحسن بلاش نتعوّد عليها ، ويقول آخر : الله أعلم بجوز فيها لحمة كلاب ولا بسس )) ، اقترب دور بعض نساء الحيّ ، كانت إحداهن هي الموجّه : (( الّلي بخلص دورها وتقبض بتخيّط شوالاتها وتخلّي أبو سعيد يحمّل لها الشوالات بترتيب )).
وصلت فاطمة أوّل الدور ففرحت ، فنصف مشوارها انتهى ، كانت الزحمة شديدة والتدافع أشدّ فوقوفك على الأرض دون أن تسقط رهن بعزيمتك ،وأي عزيمة أقوى من عزيمة الحصول على المؤن ؟ مدّت فاطمة يدها لتناول الكرت للموظّف - وسط هذا التدافع الشديد - فسقط الكرت من يدها ، الأرض مبتلّة بالسمن المخلوط بالسّكر والأرز الحليب والطحين والعرق والبصاق ...
سقط متبوعًا بسقوط قلب فاطمة ،واحتاجت فاطمة إلى كمية كبيرة من الصراخ الممزوج بالدمعة لتقنع الناس بالتراجع قليلا ، نجحت وسط صيحات الموظفين ، وبعض أولاد الحلال ، بحث الكلّ عن الكرت ، لكنّه ملح وذاب ، بحثوا في الأرض وفوق الأرض ، في الشوالات وبواطنها ، لم يجدوا كرت المؤن ، ابن حلال هذا الموظّف هدّأ من روع فاطمة : (( والله ما بتروحي إلاّ ومعك السبع نفار ، بس اصبري )) تنحّت جانبًا بما يتيح للبعض البحث عنه ، لكنهم عبثا حاولوا إيجاد العزيز ، وأذّن مؤذنٌ أنّ كرت المؤن الراجع لفاطمة من مخيم ... مفقود ، ولِمَن جاء به حِمْل نفر أو نفرين ... ، كلّ هذا وسط هرج ومرج من النّاس ، وكثيرون من تألّموا على ما آل إليه حال هذه المسكينة ، أصدر الموظّف الضخم الطيّب الأمر لزملائه بأن يعطوها ما تستحقه ، على أن تراجعهم هي أو زوجها بعد ثلاثة أيام لتدبّر الأمر ، انفرجت أساريرها وبدأ لسانها يلهج بالحمد والثّناء لله ، مصحوبًا بالدّعاء للموظّف ، خرجت فاطمة تجرّ أكياسها وبقجتها يساعدها عتّال ، وتجرّ معهن قليلاً من خيبة أمل ، وصلت إلى السيارة ، استقبلتها رفيقاتها بالسؤال والاطمئنان والتشجيع على الصبر : (( وين بدو يروح بلاقوه )) ، صعدت السيارة وتربعت فوق الأكياس وهي في حيرة ووجوم ،هدأ حالها قليلاً ، لكنّ ذلك لم يرق لبعضهنّ ، بدأت النساء يتغامزن مسكينة يا فاطمة إذا في رجعة على البلاد ما لك رجعة ، لأنّه الرجعة على كرت المؤن ، فتكاد تبكي ، ثم يظهرن لها أنّهن يمزحن ، فيهدأ روعها ، وتطلق إحداهنّ تعليقًا ناريًّا آخر (( الشهر الجاي ما لك مؤن ، ويا ويلك من جوزك ، والله ليطردوا أولادك من مدرسة الوكالة و... )) وصلت المخيم وهي ما زالت في حيرتها ، انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم ، ساعة وبدأت وفود النساء اللواتي لستن من النفر سبعة ، بالتقاطر على بيتها مستفسرات معزيّات بفقدان العزيز الغالي كرت المؤن ، بدت فاطمة أكثر تماسكًا أمامهن ، وكانت تردّ عليهنّ بأن الأمر سهل ، وأنّ زوجها سيخرج كرتًا آخر بعد أيام قليلة . مساء عاد زوج فاطمة من عمله ، بادره ابنه الصغير ؟ متجاهلاً- كلّ وصايا أمّه وتنبيهاتها بألاّ يخبروا أباهم مباشرة ، لكنّ الصغير بادره بقوله : أمّي ضيعت كرت المؤن ، ردّ زوجها بكلمات جعلتها تنسى كلّ ما حدث تمامًا : فداها ، بلاد ضاعت ، وقّف الأمر على خلقة كرت ! تناول غداءَ المقالي الّذي أعدّته على عجل وبسمنة المؤن ذاتها ، بعد أيام قليلة عرّج زوج فاطمة على المركز ، فأخبروه أنّهم لم يعثروا عليه ، وأنّه لا بدّ من تقديم طلب جديد ، ففعل ، أسابيع واستلم كرت المؤن الجديد ، مرّ على المكتبة
وجلّده بـ ( الجلاتين ) وعاد إلى المنزل يحمله ، دخل المنزل قابلته فاطمة باتسامتها المعهودة ، زفّ الخبر إليها بأنّه استلم الكرت الجديد ، قالت له بابتسامة ساحرة تزيّن شفاهها : مبروك صاروا ( توم ) فهي أثناء تفريغها لآخر حفنة رز من الشّوال الّذي كان معها في اليوم المشؤوم سقط مع هذه الحفنة الكرت القديم ، وعاد بعد طول غياب ، وما زال أولاد فاطمة يتندّرون على أمّهم بأنّها أنجبت خمسة ، لكنّه تحولوا إلى عشرة ، ويروون القصّة لأبنائهم ، وترويها هي لأحفادها.
شارك بتعليقك