في بيتنا ( بُوبّو )
قصّة بقلم : أيمن عبد الحميد الوريدات .
الأردن ؟ الزّرقاء
ظننتُ أنّ خرزات المسبحة اكتملت عندما تجاوز والدي الخمسين بخمس سنوات، وقد أتى حرثه أنّى شاء ، فكان له أحد عشر كوكبا ، واعتقدتُ أنّ أرضه صارت بورًا فلن تصلح لحرث آخر ، وإن حُرثت فأنّى لها أن تأتي أكلها من جديد ، فقد كان سائغا فيما مضى من سالف الأيام .
أصبح أخي آخر العنقود في عقده الأوّل لكنّه كثير الدّلع فهو آخر العنقود ، لا ينام إلاّ متوسطًا بين الشّمس والقمر فهو العزول الجديد ، ولا يأكل إلا من ملعقة مزيّنة بيد أمّي ،ويأبى أنْ يجالسه أحد على الطعام ، ولا أنس كم كانت تحتال عليه ليأكل عندما كان يسوق دلعه إلى حدّ بعيد فتنهال عليه الوعود بمرافقتها إلى السّوق ، وبمكافأة ماليّة ، وكانت تصلّ أحيانًا إلى وعده بالغياب عن المدرسة و... وكانت إذا ما نظرنا إليها نظرات فيها استغراب واستهجان من دلع العنقود كلّه ، ردّت كلّ واحد فيكم أخذ دوره ، وتدلّع ، فأسترجع الشّريط بسرعة فأجد شيئا ممّا قالت ، هكذا كان دلع أخي ، وفي غفوة من آخر عنقودنا ، وفي لحظة فقد فيها سيطرته على الوضع فلم يتوسّط الشّمس والقمر ذات ليلة ، أو ربّما كان والدي قد حاك مؤامرة في ليل ،فحرث وبذر، يجيء خبر ما بعده خبر ، أمّي حامل وهي على أبواب الخمسين ، هذا ما أخبرنا به أمين سرّ والدتنا الكريمة ؛ أختي الكبرى الّتي كانت تأتينا بالأخبار الطّازجة من مطبخ أمّنا قبل تأكيدها ، وعلى أسلوب صرّح مصدر مسؤول طلب عدم كشف اسمه ، وكنّا نلتزم بميثاقنا الصّحفيّ ونتحفّظ على اسم المصدر ، وبعد تناولنا الغداء في ظهيرة يوم مشمس من أيام فصل الشتاء حيث استثمرنا قدوم الشّمس على غير عادة ،وتناولنا الغداء في الحديقة الخلفيّة للمنزل وتحت كرمة متسلّقة ، عادت أمّي تحمل لنا إبريق شاي تفوح منه رائحة الزّعتر البلديّ ، وجلست في صدر حلقتنا المتوائمة ، وكان آخر عنقودنا يتسلّق شجرة التين ، وهي تصيح عليه ( اوعى تقع ) بادرتها بالقول : (( عن جد هذا آخر العنقود ولاّ في ...؟ )) لأوّل مرة أرى أمّي في موقف لا تُحسد عليه من الخجل منّا ، وأرخت شفتيها لابتسامة خجولة ولا أروع ، ونظرتْ إلى أختى الكبرى نظرة ... فبادرت أختي كمن يواجه اتهامًا بقولها : (( والله ما قلت لهم شي ، هم سحبوا لساني وجرجروني بالحكي ... )) ، فأجبناها عادي أنت وأبي ما زلتم شباب وخلّي الدزينة تكمل ، ونصير اثني عشر ، والله عزوة ، نزل أخي الصغير عن شجرة التين ، وفي يديه حبّات تين لم تبصر طريقها إلى الاستواء والنضوج ، وجلس في حضنه الحنون الحضن الّذي ضمّنا جميعا ، فأخذنا نتطرّف ونكيل التعليقات دون أن يدري هو ما الذي نرمي إليه ونقول : قرّب الحضن يصير لغيرك ، خذك عزّك ( هالحين ) أشهر قليلة وتصبح على الرّفّ ، الملاعق المخصصة لأكلك سوف يأتيها عزيز آخر، وألعابك يا مسكين ... وأمّي تردّ علينا(( ما عمر حدا فيكم كان على الرّف ، هذا الحضن كان حضنكم كلّكم ))، ونحن على يقين بما كانت تقول ،فهي الحضن الحنون الّذي ضمّنا ، هي الأرض الّتي بها التصقنا ،هي لحافنا ، لكنّنا كنّا نثقّل دمنا عليها بهذه التعليقات ، ومرّت أشهر الحمل السبع الأولى ،وأمّنا بكامل عافيتها وصحتها ، ربّما كان للخبرة دور في ذلك ، فهذا هو بطنها الثّاني عشر ،فهي تذرع البيت على اتساعه يمينًا وشمالا ، وتقوم بأعمالها المنزليّة على أكمل وجه ، وراجعت الأخصائي الّذي أخبرها بأن القادم الجديد بنت _ إن شاء الله _
وأمي تقول: (( والله لو كان قبل عشر سنوات خبّرني هالخبر وحلف عشرين يمين ما صدقته ))
ولكنّها أصبحت الآن على ثقة بالعلم بعد قدرة الله _ سبحانه وتعالى _ وفي أواخر حملها بدأت حركتها تتثاقل ، ولكنّها تزيد من اطمئناننا كلما رأتنا نقلق عليها بقولها (( الولادة ولادة حتى لو الوحدة بتجيب عشرين بطن )) فنركن إلى قولها المقنع لنا فهذه خبرة نساء ، وجاءها المخاض وأنجب القمر قمرًا ، وكانت أمّي قد جّهزت لها جهازًا وكأنّها المولود الأوّل ، وزاد في ذلك التجهيز هوس أخواتي الكبيرات والصغيرات فالقادمة لعبة جديدة ، سيعملن على اللعب بها حمّامًا وتسريحًا وتلبيسًا وتمشيطًا وتزيينًا ، وربّما عدن ليلعبن معها لعبتهن الخالدة( بيت بيوت )، فلو نظرت إلى الزّاوية الّتي أعدت لها في غرفة والديّ لعرفت أنّي غير مبالغ ؛ فالأطواق والبكل وربطات الشعر ، وعلب ( المناكير ) والأحذية ، والملابس بالجملة ، وبكلّ الألوان الطّفوليّة ، حتّى لدرجة أنّي كدتُ أتمنى لو أعود صغيرًا ، وأصبح أخي آخر العنقود أشدّ عودًا لا لإهماله فوالدي أخذ على عاتقه في ذروة تجهيزهم للبنت التجهيزالنّفسيّ لأخي وبأنّ القادمة أخته وحبيبته الّتي سيلعب معها ، بدأت الصغيرة تحبو وفي رغبة معظم أفراد العائلة تقليدها في حبوها ، ولا ترانا إلاّ والكاميرا في يدينا نلتقط لها أجمل الصّور ، فهي نجمة العروض الأولى ، ونحن حشود المصوّرين والمعجبين ، وجاء اليوم الّذي بدأت تألف وجوهنا فتقبل هذا وتعرض عن ذاك ،ولا تراها إلاّ وهي في برجها العاجيّ بين أيدينا حتّى أنّا خشينا ألاّ تمشي فهي لا تعرف الأرض أو المنخفض من الأماكن إلاّ وقت النّوم ، وطَوِل لسانها وأصبح قادرا على نطق بعض الكلمات وأخذت هذه الكلمات تجدّ طريقها إلى ألسنتنا فتسمعنا نقول ( للن ) قاصدين اللّبن ، ونقول ( إمبو) قاصدين الماء
و ( أفّه ) تعبيرا عن الخبز ، ، وصار أكل ( السيريلاك ) ممتعًا ولذيذًا ، حتّى أنّ مسمّى الكثير من الكلمات كدنا ننساه ، وأصبح آخر العنقود المستقيل لا يفارقها ولا يطيب له الحديث إلاّ عنها ومثلها ،وكبرت آخر العنقود المعيّنة حديثًا،أقصد صارت لعبةً أكبر ، وما زلنا لا نناديها إلاّ بلفظ اعتدناه
( البُوبّو ) .
شارك بتعليقك