واجه الشعب الفلسطيني في القرن الماضي حدثين مأساويين، ففي عام 1948 ضاع الجزء الأكبر من بلاده فلسطين، وسقط بأيدي المليشيات اليهودية المسلحة بدعم بريطاني، وسارعت تلك المليشيات بإعلان ولادة دولتها الجديدة على أرض فلسطين، تحت اسم إسرائيل وبدعم أمريكي وأوروبي، وباعتراف أممي من الشرق والغرب.
وفي عام 1967 ضاع الجزء المتبقي من فلسطين، لكن هذه المرة على يد الجيش الإسرائيلي القوي الذي لا يقهر، والمعد للتفوق على جميع جيوش المنطقة المعادية بدعم أمريكي وفرنسي وبريطاني.
لكن الغريب في الأمر أن التعامل مع ضياع الجزء الأول اختلف عن التعامل مع ضياع الجزء الثاني، وكأن الأمر كان أقل أهمية، فحتى في المصطلحات استخدم مصطلح نكسة ليكون أخف وطئا من مصطلح النكبة، الذي أطلق على التشريد والتهجير الأول، رغم أن حرب عام 1967 أدت أيضا إلى التهجير والتشتت في بقاع العالم، لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني، الذي وقع ضحية للخوف من تجربة حرب 1948، فغادر بالآلاف إلى الأردن، وكان معظم من غادروا من سكان المخيمات، وبذلك كانت الهجرة الثانية لهم، فهناك مخيمات بأكملها هاجرت مثلما حصل في مخيم النويعمة في أريحا.
في يوم الخامس من حزيران عام 1967 كنت أضع قدمي بتردد على عتبة عقدي الثاني، متوجسة من دخوله لأسباب كثيرة، ربما كان أهمها أنني سأفتقد اللعب مع أبناء الجيران الذكور، خاصة لعبة "السبع حجار"، التي كنا نلعبها مستخدمين كرة صغيرة من القماش، تصنعها لنا أمهاتنا من بقايا ثوب تم تصغيره ليلائم الأخ أو الأخت الصغرى.
بدأت الحرب وبدأت الإشاعات عن المذابح واغتصاب الفتيات وبقر بطون الحوامل تتردد بين الناس، فسارع معظمهم بالهجرة أو على الأقل إرسال بناتهم إلى الأردن، لحمايتهن من الاغتصاب، في حال قررت العائلة البقاء في البلد وعدم الرحيل.
كنت في عمر لا ينطبق علي فيه وصف الصبية، وكانت أختي التي تكبرني بثلاث سنوات أقرب للصبا مني، أما أختيّ الصغيرتين فكانتا طفلتين ولا خوف عليهما.
كان جدي رحمه الله يريدنا أن نرحل، لكن أبي كان متردداً جداً وكذلك أمي، حاول جدي قبل أن توجه إلى الأردن بصحبة ابنته وزوجة ابنة المتزوجتان حديثاً زواج بدل، للالتحاق بزوجيهما، حاول أخذي وأختي الكبرى معه، إلا أن أبي حسم أمره ورفض، وقال: "إما أن نذهب جميعاً أو أن نبقى مع بعضنا البعض، فلن أرسل بناتي وحدهن".
في ساعات الليل وعلى ضوء مصباح الكاز، وحين يظن أبي وأمي أننا نائمتان، يبدأ الهمس بين والديّ، وكنت اسمع بعضه واشعر بالخوف، ولم أكن افهم ماذا تعني كلمة اغتصاب، لكن شعوراً ما كان يقول لي إنه أمر جلل.
دخل الجيش الإسرائيلي قريتنا بعد أيام من انتهاء الحرب، وكانت أول مرة في حياتي أرى فيها دبابات ومدافع تجوب شوارع القرية الضيقة، حتى أن أحد المدافع كاد يحشر بين الجامع القديم وبين بيت جدي الذي اجتمعنا به، مما اضطر السائق إلى رفع فوهة المدفع إلى الأعلى ليستطيع عبور الزقاق.
أعلنوا منع التجول من الساعة السادسة مساءً وحتى السادسة صباحاً، وبعد أيام أطلقوا بضع رصاصات في الجو لإرهاب من كانوا يجلسون أمام بيوتهم بعد سريان منع التجول، ورغم أنها لم تصب أحداً، إلا أنها تسببت في وفاة قريبنا محمد الذي لم يكن قد بلغ الخامسة عشرة من عمره بعد، حيث تعرض لنوبة قلبية نتجت عن الخوف الشديد فأودت بحياته، ليكون بذلك أول شهيد فقدته القرية بعد حرب 1967.
بعد ذلك سارت الأمور بسلام، ولم تغتصب أي فتاة أو امرأة لا في قريتنا ولا في القرى المجاورة، وبدأ الذين أرسلوا بناتهم إلى الخارج بإرجاعهن قبل أن تغلق الحدود وتفتح الجسور.
هذا الوضع وضع حدا لطفولتنا، وبدأ التعامل معنا على أننا أصبحنا كباراً، وهذه النقلة المفاجئة جعلتنا نكبر في تفكيرنا، خاصة بعد أن عدنا في بداية شهر أيلول إلى المدرسة، فوجدنا جميع البنات الكبيرات قد تركنها ومن ضمنهن أختي، وذلك على اعتبار أنهن أصبحن صبايا، حتى بنات جيلي معظمهن ترك المدرسة، إما بسبب الهجرة، وإما بسبب رفض أهلهن خوفاً عليهن، وبذلك بدوت من أكبر البنات في المدرسة وتصرفت على هذا الأساس.
اليوم وبعد 41 عاماً، لا زال بي حنين لأيام الطفولة، وأتمنى لو أنني عشت طفولتي كاملة، ولو أنني ولدت في زمن آخر، ولم أكن من جيل النكسة.
شارك بتعليقك