بسم الله الرحمن الرحيم
عزة.. ليس إلا
فهد سمحان
حينما تقف الى خيط من خيوط الشمس.. ملقيا بصرك.. مطرقا سمعك.. مترنما في ذلك التناسق الوهاج.. بين أصوات الطبيعة ومناظرها.. بين موسيقى الطيور وذلك الخيط المشع الذي بالكاد يلامس حدقة عينك.. انك اليوم هنا تلتقط من فؤادك كل معاني الجمال.. ولكن غدا لا تدري أين تكون.. ربما بين أعمدة من الحديد الصلب المسلح تلف مخيلتك من الجهات الأربع.. لتستعمر فيك مشاعر الجمال تلك.. كم هو قاس هذا الانتقال المفاجئ بين الحديث عن مواطن الجمال المبدعة تلك وبين هذه الصورة القاتمة.. لكن قسوته مهما بلغت لا يمكن أن تبلغ مشهد الانتقال الحقيقي.. من عالم الحرية الحمراء إلى عالم السجن الأغبر.. حينما تجد نفسك التي طالما تألقت على تراب الوطن العزيز بين سلسلة لا نهائية من السياج الفاصل بين الحرية والأسر...
ربما هذا ابسط تفسير لتلك المشاعر المتدفقة التي تملأ قلب الفلسطيني الذي انتقل ليدفع ضريبة الحرية والعيش عيش السعداء العزيزين على ارض البرتقال الحزين.. يخطف من أصل بيته.. ويحمل بحافلة لا تصلح إلا للصوص.. وينقل إلى مكان مجهول لا يرى من الطريق إليه شيء، ثم يلقى على قارعة المكان ليصبح محط أنظار المارة ممن يتهافتون إليه بدعوى الفضول، ممن يسعون إلى استأصاله من هذه البقعة الممتدة.. تراهم يهملون عنصر الزمن من حياته..وهذه أولى خطوات قتل النفس.. ليمضي ساعات كثيرة على وضع واحد ليس له حق حتى في الاعتراض عليه.. وكل هذا بدعوى الإجراءات الأمنية.. وبعد أن يمر ما شاء الله من زمن.. يحمل بواسطة حافلة أخرى معدة كي لا يجلس الإنسان فيها.. إلى مكان آخر ليس قريبا عن المكان الأول غير انه لا يختلف عنه إلا في بعض التفاصيل.. ومن مكان إلى مكان.. ليلقى أخيرا بين أحضان إخوان له سبقوه إلى نفس المكان..
كتل من المشاعر الحية.. التي لو فتحت لها الأسوار لتدفقت إلى تفاصيل كثيرة هناك خلف هذه السياج; تراب مر وقت طويل لم تشم عطره ولو من بعيد.. أشجار حالت الأقدار دون أن نستظل بظلها ولو لبرهة.. سماء حكم الزمان أن نراها مقطعة الأوصال عبر سياج لا نهائي.. أهل وأحبة لا تطفيء الصورة لوعة الشوق إليهم.. هذا هو الأسير الفلسطيني.. الذي طالما حلم أن يكون حرا بين أوصال العالم الكبير ليجد نفسه أسيرا في قفص صغير.. عمل وناضل وقاوم كي يرى نور الحرية بين أبناء عروبته وأبناء إسلامه، لتراه جسدا باليا على خشبة مهترءة يسأل فوقها: لماذا تريد أن تعيش حرا.. ؟ يخجل السؤال حتى من نفسه..
السجن عالم آخر.. مجتمع كونه اهله الابطال .. اختلقوا عناصرا.. ومايزوها بأسماء خاصة تحمل صبغة المكان.. ورسموا خطوط حياة اجتماعية اشبه ما تكون بقرية صغيرة.. فتارة تجدهم يغرقون في زيارة ودية ويقلبون اذيال الحديث.. وتارة تجدهم يصطفون في طابور الرياضة الصباحي ليبقى الجسم على ثباته.. وتارة تجدهم يتبادلون التهاني او التعازي او التمنيات بالسلامة او الشفاء.. تجدهم مختلفين على رأي او توجه.. وتجدهم متوحدين على موقف وطني لتحسين واقعهم الاعتقالي.. تجدهم في فراح غامر.. وتجدهم في حزن داج.. تجدهم بحالات كثيرة الا انك تجدهم دائما وابدا ابطالا ليس يضيرهم اسر او تقتيل..
ان اكثر ما يهون على الاسير الفلسطيني المناضل آلامه.. هو انه وان بعدت به المسافات بقي بين ذرات من تراب وطنه العزيز.. على رمال نفحة او بئر السبع.. على كثبان النقب او بين جبال عسقلان.. اسماء مرتبطة بجذوة التاريخ النضالي الفلسطيني العريق.. قبور.. تضم احياء منذ سنين وبعضهم منذ عشرات السنين وآخرين يموتون فيها لشهور وايام كي يبعثوا من جديد محملين برسائل من "اصحاب القبور" علها تصير الى قلوب "الاحياء" في اسماء اخرى اكثر شمولا.. هذه الاسماء التي فتحت كي لا تغلق من جديد ولو درى الفاتحون انها ستغلق ما صنعوا لها ابوابا ولا وضعوا لها حراسا ولبنوها من خيوط العنكبوت حتى يسهل تدميرها خيطا خيطا ان تمردت.. الا انها بنيت بخيوط حديدية كي يصبح اهل البلاد فريستها والى الابد.
*ملاحظة: هذه الحلقة الاولى من سلسلة مذكراتي داخل المعتقل سأتبعها بمزيد من الحلقات بإذن الله
شارك بتعليقك