الوطن في عيون الحداء
عمر عبدالرحمن
غاية هذه الدراسة استقراء مجموعة من النصوص الشعبية المغناة في منطقة جنين، والتي جمعت بشكل عشوائي من أشرطة الكاسيت المنفذة في أعراس منطقة جنين *، وتحليل هذه النصوص بدلالة المكان .. بعبارة أخرى سيتم التركيز في تحليل النص على المكان / الوطن، وكيفية تمظهر الوطن في النص الشعبي .. لنخلص الى الإجابة عن الأسئلة المكونة لعملية الإبداع الشعبي:
لم غنى ؟؟... ولمن غنى ؟؟.. وكيف غنى ؟؟..
وذلك في محاولة الربط بين المبدع والمتلقي من خلال الموقف الغنائي.. الإنفعالي الواعي..ليصبح " نتاج ما يقدمه الأفراد الأفذاذ من فكر وثقافة إنما يعود مرة أخرى ليتسرب ألى شرايين هذا المجتمع بطريقة تلقائية وغير منظورة، ليصبح تدريجياً جزءاً من نسيج ثقافة شعب وليصبح جزءاً رئيساً من مكونات فكر الشعب وأدبه.. وما يحصله ويحققه الفرد الفذ يعود ليصبح جزءاً من نسيج ثقافة الشعب"(1 )
محاولة تأصيل ، وإيجاد قاسم مشترك :
الوطن :" تعني في الأصل مراح الإبل ومأواها، ومن ذلك قول الشاعر :
و يأوي إلى أوطانه الجمل الوهم "(2) "و من الإبل الحنين و أصله الناقة تحن لولدها إن طربت في أثره ونزعت إليه بصوت"(3) وللإبل الحداء:" وهو الغناء للإبل.. حدا الإبل، وحدا بها ساقها وحثها على السير .. ولا يقطع صمت السير في الصحراء غير الغناء والحداء أصل الغناء لدى العرب عامة، والركبان منهم خاصة" (4) .
" ومن الفنون الشعبية الأخرى التي أشتقت من حركة الإبل وسيرها لحن " الهجيني " حيث يؤديه مسافر يقطع الصحراء على ظهر هجين ، علاوة على تسمية أحد بحور العروض العربي بالخبب ، وهو مشتق من حركة الإبل وسيرها أيضاً "(5). إنه البعير إذن .. الذي صاحبه العربي .. قطع معه البيد والفيافي في رحلة باحثاً عن كلأ وماء ، أو مرتحلاً لحبيبه .. أو متاجراً ببضاعة
إنه البعير الذي ساعد في شحن العواطف ، وتذكر الوطن ، والحنين إليه ، وهذب الروح لترفد مسامع الصحراء بهذه الأنواع المختلفة من الغناء . إنه البعير الذي ربط الإنسان بالمكان والإبداع. وإذا خرجنا من دائرة التأصيل ، نقول : الوطن في هذه الدراسة هو فلسطين بكل أبعادها المادية والمعنوية ، وفلسطين في الحداء إحدى الموضوعات التي دار حولها المبدع " فحب الوطن يفرض خلق أدب مناسب باللغة المحلية "(6) ومن هذا الأدب المناسب الحداء . والحداء في هذه الدراسة هو كل ما يمكن أن ينتج من أدب ، ويبدع في عرس فلسطيني ، بكل أشكال الأغنية الشعبية وألوانها ...لذا ستتطرق هذه الدراسة بالتحليل للحدادي ، الزجل ، أغاني الزفة ، السحجة ،الدبكة ...... الموال ، العتابا ، الميجانا ..... الخ .
وسيحاول الباحث إنتهاج المنهج الوصفي التحليلي للخروج بفكرة عامة عن كيفية تعامل المبدع الفلسطيني مع الوطن : لم ذكره ؟.. كيف رسمه ؟.. وكيف وظفه في إبداعه ؟.. الخ . "وذلك بفضل قيمة الكلمة في كل صورها ، فالانسان لا ينطق بكلمة ، فضلاً عن أن يستخدمها في تعبير أدبي إلا إذا كان وراء ذلك مغزى " (7)
الدخول :
واكبت الأغنية الشعبية الفلسطينية حركة المجتمع بتنوعاتها المختلفة.. سياسية كانت ، أم إجتماعية ، إم إقتصادية .....الخ .. ولم يقتصر دورها الأدبي على العكس المرآوي للعملية الإجتماعية فحسب(8) ... بل كانت أداة للتعبير والتثوير ، خلقت حولها دوائر من القيم والمعايير الإجتماعية ...
الموضوع :
ما من شك في أن تشكل الوعي الثوري الفلسطيني ، وتنظيم طاقات الشعب في صراعه الذي فرض عليه مع المستعمر ومواجهة ممارساته الإستعمارية ، كان له الدور الأكبر في شحذ الأغنية الوطنية بصور الوطن ، والتي تمظهرت بأشكال مختلفة ، تبعاً للدور الذي فرضته المرحلة على تجربة الشاعر الفنية ...
لنتأمل شاعر الثورة نوح إبراهيم يغني ، إبان ثورة 1936 :
قولوا معي يا إخوان .... الله ينصر هل الأوطان
كل واحد فينا فرحان .... في ها للجنة العليه .
إن شاء الله نفوز بإستقلالنا ونرفع علم الحرية(9) .
ويقول في موضع اّخر :
فلسطين قضيتها زي الشمس مفهومة
الصهيونية اغتصبتها وبدها تعمل حكومة
يغتصب الوطن ويستعمر ، ويتحول الوطن المغتصب إلى مثير يحرك الشعب ، لمواجهة المخططات الإنجليزية . إنه التشكيل الجديد للوطن .. محيط مُستعمر وإنسان يناضل لتحريره .. وفي النص الثاني .. نرى أن الشاعر رفع( مانشيتا ) عريضاً كتب فيه شعاراً مثبتاً ، وكتب فيه مطالبه .. ، والمتأمل في هذه النصوص يرى أنها أكثر من ألفاظ منطوقة أو منظومة .. حيث حولت الوطن من مقاييس رومانسية نظر اليها الشاعر الى وطن يجابه مكر المستعمر الإنجليزي .
وتسقط فلسطين ، وتتولد في رحم التاريخ مرحلة مأساوية في حياة الشعب الفلسطيني .. يسودها القلع والتهجير ، القتل والتدمير ، التهويد والتذويب .. "وهنا نجد الشعر الشعبي يمر على الوطن المحتل بالاسم مدينة مدينة قرية قرية ، ثم خربة خربة "(11) ليشكل هذا الشعر حالة من المواجهة ضد التغريب ، ضد النسيان .. حالة تذكر بحشد الطاقات كل لحظة .. وعادة ما يخلط المبدع أسماء المدن والقرى بهالة من القيم ، والمعايير التي يتغنى بها هذا الشعب ، يقول نعمان الجلماوي :
لجلقموس وأرض بيسان والنخلات
بيسان جارة لديرتكم ولوادينا
ودير الغزالة يا دير الحب والصلوات
ومن ها الغزالة المسك رح أقول بكفينا ..
لميثلون الهلي هالة من الهالات
السيلة بلدنا ومدى الأيام تعنينا
وهكذا يستمر الشاعر في رسم خريطة الوطن ، ولا ينسى أن يمر على عصيرة الشمالية ، وجبلي جرزيم وعيبال ، وبيت إمرين ، وبلعا ، وعجة ، وجبع ،و العطارة ..... الخ(12). ومن الملاحظات التي يمكن أن نستخرجها من رسم هذه الخريطة:
1- تتحدد هذه الخريطة بالقرى والمدن المحيط بالقرية التي يغني فيها الشاعر ... أو القرى والمدن التي أتى منها ضيوف الحفل.
ويا هلا حيي الظيوف بالرماح والسيوف
أهل المزارع أماره وربع العادات المعروف
وحيي لكفر عيني وأنت أمضى من السيوف
قراوة بني حسان جلماوي قلبوا ألوف (13)
وأعتقد أنه من السهولة بمكان تحديد منطقة الحفلة الأولى وهي منطقة جنين ، وتحديد مكان الحفلة الثانية وهي منطقة رام الله .
2- النضالات التي تظهرها هذه المدن والقرى:
يا طير الطاير على جنين لكل الشوارع وصل حنين
وبلغ سلامي للمحبين وخيي اللي بسجن النقب مسجونا
يا طير الطاير على القطاع أغلى التحية للشعب الواعي
حجرك غنى مع المقلاع زريف الطول وعلى دلعونا (14)
3- هذه الخريطة الشعرية التي يرسمها الشاعر لا تعترف بحدود سياسية ، ولا بقرارات دولية جائره مثل قرار التقسيم ، أو وعد بلفور ، وإنما تشمل كل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر : فيغني الشاعر مفيد حنتولي :
نزلوا الدبيكة صفين يا حيا الله
هلا بالسيلاويه هلا والله
بحيفا ويافا وسخنين يا حيا الله
دبكتنا فلسطينية هلا والله
بجسر الزرقا وعبلين يا حيا الله
سلم على السمراويه هلا والله (15)
ويقول اّخر :
جفراو يا ها الربع وتعشب بأرض برقة
الموت عندي يا ناس أهون من الفرقة
ثم تنتقل للتعشيب* داخل فلسطين المحتلة 1948 غير عابئة بحد :
جفراو يا ها الربع تعشب بأرض الحولي
وأربع جدايل شقر على الظهر محلولي(16)
وعادة ما تحمل خريطة الوطن في الذهنية الشعبية ، صبغة الحنين المبلل بدموع الأحزان
يا دار يا دار نذر علي لوعدنا لأصبغك يا دار بعد الشيد بالحنا
علاوة على ميل الصورة الشعبية الفنية أحياناً للمبالغة ، والخروج من بوتقة الخريطة السياسية ، إلى أماكن مختلفة من العالم .. وفي أعتقادي أن هذا الخروج الذي قد يصل لندن ، لم يكن عفوياً .. وإنما يأتي للتذكير بالنكبات والماّسي من جهة ومن جهة أخرى علامة على التحدي والإصرار والمواجهة .
مندوب خبر دولتك لندن مرابط خيولنا (17)
" ولله سر عجيب في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح ، فإنها تؤثرفيها تأثيراً غريباً فمنها ما يفرح ومنها ما يحزن ، ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ومنها ما يطرب ومنها ما يبكي ومنها ما يستخرج من الاعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس"(18) وهذا ما يحدث عند سماع أسماء بلدات الوطن تغنى في نغمات ... يقول الشاعر سعود الأسدي : "عندما يقع ذكر الجليل على سمعي تتداعى لدى عنه ثلاثة إنطباعات :
الأول : أنه ذو سمة حضارية عريقة قديمة .
كلما عيوني اطلعت صوب الجليل بشوف الحضارة شامخ عمرانها
الثاني : إنطباع ذو مسحة دينية صوفية قدسية ، كما صورها الانجيل في مشي المسيح على شواطئ طبرية وتناوله العشاء الأخير في الطابعة ، وحياته في الناصرة .
بلادي جميلة جنة زهور وربيع خضرا وسيعة ع الشمال وع اليمين
فيها أنا أتعرفت ع السر البديع الألوهية وسر الملهمين
في القفزة شوف المرج من تحتك شقف
سجاد ياالله ما أحلى هالحمى
والطور أساس الألوهية أنسقف
شتت عليه دموع مريم وانحمى
أما الإنطباع الثالث فيتمثل في الإحتلال ،ونقيضه المقاومة:
من البروه عنو بروي أبياتو الحلوه في الأعراس
ساكن شعب أهل الأدب صاحب أدب عندو نوماس
ساكن طمره ......
ويمر على رهوان ، ترشيحا ، فسوطه ، الرامة ، سخنين(19) ...
وهذه الإنطباعات ليست مقصوره على الشاعر الأسدي .. بل تتداعى على كل الشعراء وإن بنسب مختلفة .. تبعاً لتجربة الشاعر ، وأيدلوجيته ...
لنتأمل هذه القدسية المعطرة .. التي تبعثها الشاعرة ( اّمنة عبد الرحمن) في الأجواء .. وهذه المسحة الصوفية الشفافة التي تغلف بها صورها ... وهذا النسيج الفني الجميل الذي يعتز بالإنتماء للوطن والخلود فيه .
فلسطين أرض مقدسي ورب الكون إلها
فلسطين إلنا وتظل عمراني بأهلها
وسبحان يلي وهبلنا فلسطين بجبلها وسهلها
ونزل القراّن والاّيات تنعيش في أملها
وأن متت يا ولدي أدفنوني في أرضها
وانقشوا وحطوا على قبري من حجرها
بالتعبيرات الرقيقة ترسم فلسطين ، وتضاريسها .. وتحاول بث التبريرات التي تجعل المرء ينتمي لسحر هذا الوطن(20) .
وعندما رسم الشاعر الشعبي خريطة ، وثبتها امامه ، نظر إليها وبدأ يلونها بألحانه واتخذ في هذا المنحى شكلين :
الأول :(الشكل العمودي) ركز بصره على مدينة واحدة أو على قرية واحدة من القرى الفلسطينية ،وبدأ يبين سماتها وعراقتها واّثارها ، وجمالها ، وفضائلها ، ولعل أوضح مثال على هذا المنحى ما غنى به الشاعر ( الدكتور يوسف ذياب ) متأملاً سبسطيه .
سبسطيه العراقة والأصاله لمزيني بهيبة مجد وجلالي*
أمحوطه بلوز وجوز وغابة أشجار وسلال التين وقطوف الدوالي
تشهد عمدان المجد والغار من عهود خلت والمجد غالي
كنيسة يوحنا وقصر أخاب تذكار والمدرج يللي بالوجه الشمالي
زكريا والسجن وطول المشوار أتعذب لكلمة حق وعدالي(21)
يتحسس المكان بعمق وعفوية ، يؤرخ له ، يشهد له بالخلود ، ليخلد بذلك أهل الوطن ، وأصحاب القضية ، وليعبر عن عمق جذور الشعب الفلسطيني فوق أرضه ووطنه .. وتبدو القرية أو المدينة في هذا المنحى صامدة كالطود في وجه كل محاولات القلع والتهويد والاغتراب .. تأمل هذا الصمود أمام هجرة شذاذ اّفاق طارئة :
جتنا يهود الغرب تقصد السكن ايام ملكت صروح لنا عامات نبنيها(22)
وفي هذا السياق تظهر عروس المدن .. القدس .. تظهر بعراقتها، وطهارتها ، وجمالها، تظهر بأقصاها ، وصخرتها ، وقيامتها ... تظهر متدثرة غلالات الحزن ، ويظهر أيضا مدى الإرتباط بين الفلسطيني ومدينة القدس ، هذا الإرتباط القوي يستدعي التضحيات الجسام لتحرير المقدسات من براثن المستعمر ... يقول الشاعر معزوز أبو الأمين البزاري :
قدسنا الحنونة أوعي تزعلي يا مسرى الرسول بأعلى منزلي
أقصانا والصخرة عروس العرب وظلي يا قدس العروبة أتدللي
بننسجلك ثوب بوتار القلب لونه أحمر شبه لون المخملي
ون يصيبك ظيم إهب الشعب بانتفاظة مثل نار المشعلي
اتكلم البارود بساحات الحرب ونادى من جنين أرض المرجلي (23)
يوظف الشاعر ضمير المتكلم " نحن " في مخاطبته القدس " قدسنا ، أقصانا ، بننسجلك " ولعل في ضمير الجمع ما يشي بالتضامن والقوة ، خصوصا إذا إقترن بألوان التضحية والفداء " الأحمر، النار ، أوتار القلب " ويقر الشاعر بقهر المدينة المقدسة ، والتي يجب أن لا تقهر ، فهي مسرى الرسول ، فيها الأقصى وقبة الصخرة ، لذا فهو يرجوها أن لا تحزن .. يعدها بثوب سحري رائع يليق بمكانتها.. خيوطه أوتار القلب لونه أحمر .. صورة مركبة تركيباً واعياً و معتنى به ..
فالثوب مثالي ... اسطوري .. والخيوط مثالية .. تشي بالحب واللون الأحمر للفداء والتضحية ... وهذا التركيب في الصورة يتوازى مع قدسية المدينة ... ومكانتها .
المنحى الثاني :( الشكل الأفقي) وفيه جال بصر الشاعر في أرجاء الوطن رحل هنا ، وأقام هناك وتفاعل مع تضاريس الوطن .. رسمها بأجمل لوحات صوتية ، ولم يكتف بالوقوف على قمم الجبال ، أو التربع بالسهول والهضاب .. بل سافر مع علائق هذه التضاريس من برد ، وحر ، ومطر ، وريح ، فاكتست الجبال زهوراً، وامتلأ السهل قمحاً.. وفاحت روائح البنفسج واليانسون والدحنون . ..
أعتقد أن قريحة الشاعر في تصويره للوطن هنا قد جادت بصورة متداخلة مركبة: بصرية ، حركية ، لمسية ، شمية ...
شارك بتعليقك
اخوكم/ المـــ....انس عواد...خلص