بسم الله الرحمن الرحيم
في الذكرى الثانية لباني عين حوض الجديدة
وزارع شجرها والمدافع عن أهلها
" حلمي أبو الهيجاء "
وتسهو عيني ويصيبها النعاس وتنبض في ذاكرتي ذكريات طفولتي يوم كنت طفلا يلهو مع أقرانه و أترابه في أزقة مسقط رأسي عين حوض " الأم " فأرى بيتنا وقد إمتلأت ساحته الواسعة بأبقار جدي وأغنامه وأدلف من الباب الواسع إلى الزقاق ثم أخطو خطوات فأصل إلى بيت جدي لوالدتي " أبى العبد " رحمه الله ورحمها فألجه بلا إستئذان ويستقبلنى جدي ويحتضننى و يسَر بي و يهشَ لمقدمى وتتلقفني الأيدي وكل يسعى لتقبيلي جدتي لأمي و عمتي " أم محمد " ثم أفتح الباب الجنوبي وأقف على عتبته لأنظر إلى أغنام " أبي حلمي " في ساحة بيته ولتكتحل عيناي بساكنى أهل البيت ومنهم أبو جميل وأم جميل وصغارهما ، ثم أصحو من إغفاءتي فإذا بى أرى نفسي شابا قوي البنية ويمر أمام عيني شريط حياتي وقد تقلبت بي الأيام في البلاد فإذا بي بالضفة الغربية زمنا وفى الكويت زمنا والأردن وسوريا ولبنان والعراق وليبيا والسعودية وتونس فترات أخرى ، وإذا بى اليوم أعود إلى جنين زائرا ثم يستقبلنى الجمع المحبّ فى عين حوض الجديدة وعلي رأسهم أبي جميل وأم جميل يحيطان بإبنتهما وأحفادهم بكل الحب والحنان والشوق ، وأعجبنى المكان فى وسط الغابة العظيمة التى أستنشق أجدادي هواءها وشربوا من عيونها أم الشقف ، والشقيف وبستان وغيرها، ودفنوا بعد ذلك في أحضان جبالها وتحت أشجار غاباتها وظلالها ، عشت أسابيع وأنا في قمة نشوتي وأعماق سعادتي ومسرتي ، ونمت ليلتي الأولى هادئ النفس قرير العين وشعرت أن عظامي قد عادت لتستقر في مكانها بعد قلق وإضطراب وجفاء للنوم لزمن طويل .
وفى الصباح قمت بجولة بين أشجار المزرعة التى غرس أبو جميل وزوجته وسقى غرسها وقلم أشجارها وحفر البئر التى جمع فيه ماء المطر قبل سبعين عاما من وقاته ، سرت بين أشجار التين والزيتون والرمان والتوت والمشمش وأكلت التين وتذوقت الخوخ والرمان فوجدت لهذا الثمر حلاوة ، حلاوة لم تعهدها نفسي من قبل .
ظل هذا الرجل التسعيني يقظا دائب الحركة يراقب من حوله وما يتحرك حول جنبيه وظل ينشل الماء بالدلو ثم يسقى غرسه وشجره ويقلمه ويعتني به ويراقبه ويحرسة ونفسه تهفو إليه فى يقظته ومنامه بكل الحب والسرور بمرآه .
إبتنى لنفسه بّراكية كما ابتنى أبوه وإخوته وأبناء عموميتهم بّراكياتهم وأقاموا فيها ، مقسما أما الله وأمام نفسه ألا يهن ولا يضعف ولا يفر ولا يهرب .
ويقول فى نفسه : لا مهرب ولا مفر من هذا المكان ، وبدأ البنيان الثابت فبنى بيته الجديد الذى ما زال يقيم فيه ابنه الأكبر وبنى أحفاده منازلهم ثم إبتنى بيته الجديد الثاني وبنى أبناؤه من زوجته الثانية بيوتهم وبنى إخوته وأبناؤهم منزلهم وهكذا امتدّ البنيان وطال وأتسع وأصبحت عين حوض " الوسطاني " ملء العين وملء النظر ، تنظر إليها فينشرح صدرك وتمتلئ سعادة وسرورا ، فينطق لسانك قائلا بسم الله ما شاء الله والحمد لله الذي أعطى ووهب وأنعم وأكرم .
وظل الرجل واقفا بالمرصاد لكل من تسول له نفسه أن يعتدى على قريته أو أحد من أهلها من الرعاة والمتسللين والحاقدين والطامعين والحاسدين .
ظل يراقب المنطقة ناظرا إلى جبالها ووديانها وغاباتها خشية أن يفكر أي غريب إنسانا كان أو حيوانا من الولوج إليها خلسة خلال الظلمة أو وسط الليل .
وقف أمام جمعهم بكل قوة وعرف بالمنطقة أنَه الحامي والراعي الذي لا تغمض له عين ولا يطرف له جفن .
وقف وقفة صامدة فحمى القرية وأهلها من أطماع الطامعين وألجم حسد الحاسدين وظل صامدا حتى أصفرت أوراق الشجرة ثم سقط الجذع ووري التراب في التاسع والعشرين من أيار سنة 2008 ودفن في الأرض التى أحبها وقرب البئر الذى حفره وتحت ظلال الشجر الذي غرسة رحمه الله رحمة واسعة من عنده وأدخله فسيح جنات .
الدكتور فؤاد أبو الهيجاء عين حوض حيفا
شارك بتعليقك