حيفا حاضرة في كتاب ماري إليزا روجرز "الحياة في بيوت فلسطين"
بقلم: جوني منصور
• أسئلة لبعض منها إجابات:
أهداني الأخ جمال أبو غيدا ترجمة لكتاب ماري إليزا روجرز وعنوانه"الحياة في بيوت فلسطين"، وما أن تسلمته حتى رجعت بي آلة الذاكرة إلى زمن بعيد قرأت فيه هذا الكتاب وتعرفت من خلاله على بعض جوانب الحياة اليومية في فلسطين عامة وفي حيفا خاصة، لأن موضوع هذه المدينة يستهويني بل مسيطر على كياني بكليته. من هي ماري روجرز؟ وماذا أرادت أن تنقله إلى القارئ البريطاني عبر تسجيلها وقائع حياتيه يومية؟ وهل من اهداف من وراء هذا النوع من الكتب؟ هذا ما سأعرفكم عليه من خلال هذه المقالة الموجزة بعد أن أتيت على قراءة الكتاب بنهم سريع مهملا بعض واجباتي الاجتماعية، فعُذرًا.
• مؤلفة الكتاب:
ماري إليزا روجرز هي شقيقة ادوارد توماس روجرز الذي تولى عدة مناصب في السلك الديبلوماسي البريطاني في مصر وفلسطين وسوريا، ومن بينها نائب القنصل في حيفا بين 1855 و 1859. وهي الفترة ذاتها التي أمضتها في حيفا وسواها من مدن وقرى ومناطق فلسطين متجولة ومتفحصة ودارسة لأحوالها وأوضاعها المعيشية والحياتية.
وحرصت روجرز على كتابة ما كانت تراه وتسمعه وتختبره يوما بيوم، ليس بهدف ان يكون سجل ذكريات لها او يوميات رحالة، بقدر ما أن يكون وصفًا دقيقًا لمجرى الحياة اليومية في فلسطين على وجه الخصوص.
• كتاب رحالة أم بحث:
وقد يعتبر بعض المحللين أن كتابها "الحياة في بيوت فلسطين" هو من صنف كتب الرحالة، ولكن المعلومات التي تنقلها تؤكد بكل إصرار ووضوح أن فلسطين كانت تمر في غمرة تحولات جذرية في مسيرة نموها وتطورها، وأن هذا الوطن لم يكن أرضًا خاوية وخالية، بل ينعم بنشاط بشري محمود واقتصادي يتناسب مع الظروف السياسية التي كانت تحيط بالدولة العثمانية، السلطة الحاكمة آنذاك.
تجولت روجرز ممتطية حصانها في الجليل والساحل وجبال نابلس والخليل والقدس وضواحيها ويافا، متجاوزة كل العقبات التي من المحتمل أن تعترض طريقها كـأجنبية وسيدة على وجه التحديد.
يمكن ملاحظة تمكنها القوي من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ولها اطلاع واسع على عالم النبات والكائنات الحية التي عاشت ونمت وزهت في فلسطين. ومن جهة أخرى تكلمت العربية بطلاقة، بل أكثر من ذلك فهمت كلمات وعبارات لا يعرفها إلا من ولد ينطق بلغة الضاد.
• تصوير الحياة اليومية:
صورت روجرز تفاصيل الحياة بدورتها اليومية والموسمية والسنوية ولعدة سنوات في ربوع فلسطين. فإن إقامتها في حيفا خصوصًا ومنطقتها وفرّت لها فرصا جيدة للاطلاع على هذه التفاصيل ونقلها بصورة ملفتة للانتباه وبكلمات تشير إلى فهمها العميق لكل التحولات والتغيرات التي كان يعيشها المجتمع العربي الفلسطيني بكافة مركباته الدينية والطائفية والاجتماعية.
• من 1862 إلى 2013، حيفا حاضرة:
لقد نشر الكتاب بالانجليزية قبل مائة وخمسين عامًا، وبالتحديد في 1862، وها هو يرى الترجمة إلى العربية في مطلع هذا العام اي 2013. ويمكنني القول ان الكتاب بكليته يتميز بأن جذوره من حيفا، فمؤلفته عاشت في هذه المدينة ردحًا من الزمن إلى جوار شقيقها نائب القنصل العام لبريطانيا، وأن إنطلاقتها كانت من هذه المدينة إلى مواقع اخرى في فلسطين وجوارها. وبقي الكتاب ينتظر من يخرجه من سباته التاريخي العميق إلى العربية، فكان النصيب أن يحقق ذلك جمال أبو غيدا وهو من اهالي حيفا وإن ولد في اللجوء، فبيته نعرفه جيدا وكذا افراد من اسرته الكريمة. وأبى المترجم ألا يصدر الكتاب إلا بمقدمة بقلم ابنة حيفا المؤرخة مي ابراهيم الصيقلي، صاحبة كتاب "حيفا العربية" . فالكتاب بحلته القشيبة وروحه منبعث من مدينة الكرمل الأبية.
• مواضيع الكتاب:
كشفت روجرز عن مركبات الحياة اليومية على مدى الساعات الطويلة، وكأني أراها تدون كل لحظة بلحظة في سجلها، وترفض ان تفوتها أية حركة أو أية كلمة. لهذا، نجد وصفًا رائعًا وجميلاً عن الأزياء سواء تلك التي ارتدتها النساء او الرجال والأولاد. وحظيت عادات وتقاليد المجتمع بتغطية واسعة بقلم روجرز، خاصة الزواج والوفيات والموائد والحفلات والمناسبات الدينية والعائلية. وحتى أنها قدمت وصفا للخياطة والتنجيد، ونقلت أحاديث الكواليس بما يخص القنصل والعمل والنشاط الديبلوماسي الذي عاشت في أروقته وحضرته. والصلوات والطقوس الدينية لدى المسيحيين والمسلمين، والأعياد. ولم تتأخر روجرز من توجيه كلمات النقد اللاذع والقاسي في احيان كثيرة إلى دور المرأة الفلسطينية بكون شحيح في الحيز العام، وأن ثقافتها ضعيفة، وانها غير متعلمة. وميزت بين المرأة الدمشقية والمرأة الفلسطينية، وكانت قد أمضت أوقاتا طويلة في محافل النساء الفلسطينيات تأكل وتشرب وتتبادل الحديث معهن. أما الأماكن المقدسة فقد قدمت وصفًا لها من منطلقات دينية معتمدة على ما تحفظه من آيات وتعابير دينية مقتبسة ومستقاة من الكتاب المقدس بعهديه.
• الفكر الامبريالي له حصة:
لكن المتأمل في سطور الكتاب وما بين هذه السطور يلحظ بدقة متناهية حريرية التعابير وناعمة الأسلوب الامبريالي الذي تبنته روجرز في كتابتها. بمعنى أن الصورة المقدمة للقارئ العادي هي وصفية بحتة، أما الباحث المتعمق فسيحظى بكتاب يندرج في عداد الكتب الامبريالية التي تمجد الغرب وتحط من قدر الشرق بتستر شديد وحذر كبير. ومن جهة أخرى يظهر كتابها مدى استعداد الانجليز ليكونوا حكاما مناسبين بل مخلّصين مناسبين للشعب العرب الفلسطيني والمنطقة وخصوصا لإدارة موارد هذه المنطقة وتنظيم ثرواتها الطبيعية والبشرية، اي أنهم يقدمون أنفسهم لهذه الغاية.
ولأننا نفتقر إلى أدبيات تصف لنا سير الحياة اليومية في فلسطين بكافة تفاصيلها، فإن كتاب روجرز يوفر لنا موردا جيدا للتعرف على هذه الحياة، والفوز بإطلالة عبر نافذة عدد من المواقع لطبيعة الناس وطرق حياتهم وسلوكهم الحياتي وتوجهاتهم المستقبلية. وتبين لها أن في فلسطين شعب يحب ارضه ووطنه، ومتمسك بتقاليده وعاداته. وبكونها قادمة من مجتمع تقليدي ومتمسك بعاداته وتقاليده استطاعت أن تفهم كنه العلاقة بين الفلسطينيين ووطنهم وأرضهم.
• رؤية مستقبلية:
هل يمكن اعتبار كتابها هذا ملفا من المعلومات التي نقلتها إلى مكاتب صُنّاع القرار في لندن لدراستها وتفكيك رموز الشرق وسحره، وبالتالي وضع المخططات والاستراتيجيات لاحتلال هذا الشرق وبسط السيطرة عليه وعلى موارده المختلفة؟ أم يمكننا اعتباره مجرد نص أدبي لرحالة أو مستكشفة نقلت ما شاهدته بإضافة ما انعكس في نفسها وعلق في ذهنها؟ مهما يتجه عقل وإدراك القارئ أثناء قراءته هذا الكتاب فإنه مما لا شك فيه أن الوصف مثير للغاية، وينقل الكتاب قارئه بسرعة هائلة ابتداءً من السطر الأول إلى منتصف القرن التاسع عشر ليعيش اجواء المدينة الناشئة حيفا والمدن الضاربة في التاريخ كعكا والخليل والقدس، والقرى الفلسطينية التي تشبه بعضها البعض كما نعتقد، ولكن يكتشف القارئ ميزة كل واحدة من هذه القرى والمواقع.
• لغته الأصلية صعبة والعربية سهلة!
كتب الكتاب بلغة القرن التاسع عشر، ولمن لا يعرفها جيدا سيقرر أنها غريبة عنه. لكن جاءت ترجمة الكتاب في غاية الدقة، ومنهى الرقة والسهولة، حيث نجح المترجم في تطويع اللغة لتصبح أداة لنقل الواقع بلغة عربية معاصرة مقرؤة ومفهومة للقارئ. وأكثر من ذلك، ولأن المترجم ذي جذور فلسطينية فإن تفسير عبارات وجمل كثيرة أوردها في متن النص باللهجة الفلسطينية المحكية إلى يومنا هذا.
لقد قرأت الكتاب قبل سنوات طويلة بلغته الأصلية، وواجهت صعوبات جمة في حينه في فهم كثير من المصطلحات والتعابير وبالتالي مقاصد المؤلفة، إلا أن هذه الترجمة وهي الأولى في المكتبة العربية قد وُلِدَت من رحم فلسطين. وبالتالي فإن صياغتها بقالب دقيق كان هو الغالب.
ويقع الكتاب بترجمته العربية في 413 صفحة، وهو من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان.
• شكرًا لأهالي حيفا:
شكرا للصديق الأخ جمال أبو غيدا على مبادرته هذه في وقت نحن في حاجة ماسة إلى مزيد من استكشاف ما كانوا يكتبونه عن وطننا وعنا، وإلى فهم التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لفترة زمنية مصادرها التحليلية والوصفية قليلة وشحيحة. وشكرًا لأهالي حيفا الذين ورد ذكرهم في الكتاب، وإن رحلوا فروحهم ترفرف فوق روابي وتلال كرملنا الأشم. إنهم الذين وضع أسس مدينتنا هذه وأسسوا لمستقبل املوا ان يكون زاهرا لهم ولأبنائهم، إلا أن جريمة النكبة وضعت حدًّا لأحلامهم.
وأخيرًا...
سيُثري هذا الكتاب بترجمته هذه المكتبة العربية، وخاصة ما له علاقة وصلة مباشرة بوصف الحياة الاجتماعية بكل مركباتها يوما بيوم.
شارك بتعليقك
تحيات مودة
شكرا على ملاحظتك، ولكن اسم دار النشر وارد بوضوح في متن المقال مع الإشارة إلى مقريها في بيروت وعمان.
وجل من لا يخطئ
لك مني كل المودة وإلى اللقاء
جوني منصور