فلسطين في الذاكرة | من نحن | تاريخ شفوي | نهب فلسطين | English |
![]() |
الصراع للمبتدئين | دليل العودة | صور | خرائط |
فلسطين في الذاكرة | سجل | تبرع | أفلام | نهب فلسطين | إبحث | بيت كل الفلسطينيين على الإنترنت | English | |
من نحن | الصراع للمبتدئين | صور | خرائط | دليل حق العودة | تاريخ شفوي | نظرة القمر الصناعي | أعضاء الموقع | إتصل بنا |
إبحث |
أريحا |
بئر السبع |
بيت لحم |
بيسان |
جنين |
حيفا |
الخليل |
رام الله |
الرملة |
صفد |
طبريا |
طولكرم |
عكا |
غزة |
القدس |
نابلس |
الناصرة |
يافا |
تبرع |
سجل |
إتصل بنا |
فديوهات |
شارك بتعليقك
وكأنما مايزال جمال قرية "أم الشوف" الحيفاوية يتصارع مع أحزان وجراحات النكبة الفلسطينية، على ملامح الحاج أحمد صبّاح الذي ناهز الخامسة والسبعين.
يأبى الحاج أحمد صبّاح إلا أن يستهل حديثه باستحضار ليالي الأفراح والخيرات في تلك القرية الوادعة، معتبراً أن ذلك هو الأساس فيها. يقول "ما كان في حدا محتاج بقريتنا ولا باقي قرى فلسطين. الخير كان يعم الجميع. القمح والشعير والكرسنة والخضراوات والفواكة والزيتون والمواشي والينابيع. صارت مطمع من كثر ما فيها خيرات هي وباقي قرى فلسطين".
يتنهد بحرقة، مردفا "هداة البال اللي كنا فيها ما كان حدا فيها. أفراحنا ما كانت تهدى. كانت العروس تروح من قرية لقرية على هودج حاملة معها راية قريتها الملونة، ولما توصل قرية العريس ما ترضى تسلم رايتها بسهولة، وكان يصير مبارزة حتى تنزل رايتها وتنرفع راية قرية العريس".
يصمت للحظات وكأنما يغازل تلك الليالي السمراء. يعاود الحديث قائلا "الناس لحد اليوم بتحكي بعرس أبوي وأعمامي. كانوا سبعة تزوجوا بنفس اليوم ومعهم العبد اللي كان يخدم ببيت جدي. وليلتها كل القرية سهرت على مبارزات رايات العرس السبعة. كانت حياة كلها أفراح وسلام وكأنه أهل فلسطين كاينين يفرحوا زيادة عشانهم عارفين إنه الأيام اللي جاية عليهم بعدين رح تكون مأساة".
تطل الأحزان من عينيه وكأنما عادت ظلال الأسى لتعارك ذكريات الأفراح. يقول "كان جنب قريتنا مستعمرة يهودية اسمها(زخرون يعقوب) ومستعمرة اسمها(بنيامين). كان فيهم يهود عرب وكانوا عايشين جنبنا بسلام وأمان. ما كان حدا يتوقع إنهم رح يغدروا فينا زي ما صار".
تطرأ على ذاكرته والدته، عندما كان إلى جوارها يوماً وجاء أحد أصحاب الدكاكين في القرية ليروي أمامها أنه ذهب إلى حيفا وسمع من إحدى الطبقات السياسية التي كان يخالطها هناك أن اليهود سيحتلون فلسطين، ويستذكر كيف ردت عليه بعفوية وبساطة القرويين مستهجنة حتى مجرد الفكرة.
ترتسم على محياه ملامح رعب يوم "أم الشوف" الأسود، عندما كان مايزال في الخامسة والعشرين من عمره وعندما كان ووالده وأخوته في حقلهم الذي يزرعون فيه الدخان، وإذ بمختار قرية "صبارين" يهرع لقريتهم بينما هو يصرخ بهلع هستيري مايزال يذكره الحاج أحمد حرفيا "أخذونا اليهود.. طوّكوا البلاد والناس كاعدة بتهرب.. أخذونا اليهود.. أخذونا اليهود".
بنبرة تتهدج ألما يستحضر تلك اللحظات. يقول "يا دوب إجى مختار صبارين وإلا ناس من القرى اللي جنبنا بركضوا وبصرخوا من طريق قريتنا وصوت الرصاص وراهم واصل لحد عنا".
يوجم للحظات بينما تبدأ دموعه بالانسياب.. بصوت يملؤه الأسى يعاود القول "طلعنا برعب وخوف لا يوصف. تخيلي حالة ناس عايشين بأمان وسلام وليالي كلها أفراح وهدوء وفي يوم وليلة يصير اللي صار. طلعنا نركض من غير ما نوخذ معنا إشي. ورحنا على قرية اسمها برطعة وناس منا هربوا على جنين وفيما بعد ناس منا أخذهم جيش الإنقاذ العراقي بشاحنات على العراق لحد ما يهدى الوضع".
وكأنما ترتعد أوصاله لذكرى تلك اللحظات التي شاهد فيها أهالي القرية يهرعون بخوف لم يعهدوه من قبل. ويستذكر حال أسرته التي مكثت في خيمة نصبها لهم مختار قرية برطعة لمدة عشر أيام، واصفا تلك الأيام بـ "الكابوس.. ما كان حدا فينا مصدق اللي بصير كأنا كنا بنشوف كابوس مش حقيقة. كنا في حالة رعب وصدمة مش كادر لحد اليوم أوصفها. بس ما كان حدا فينا متخيل إنه أيامنا في القرية انتهت. كنا مفكرين الشغلة أيام ورح نرجع".
ولم يدر بخلد الحاج أحمد صبّاح أن عودته لأم الشوف بعد أيام من تلك النكبة لإحضار أوراق هامة من خزنة منزلهم ستكون إيذانا ببدء فصل جديد من المأساة. بنبرة يجتاحها الانكسار والألم يقول "رجعت عالقرية عشان أجيب لأبوي أوراق مهمة ورجعوا معي أخوتي وشباب من القرية عشان يجيبوا أكل من بيوتهم. ولمّا قربنا على القرية وقفنا على تلة مشرفة عليها اسمها تلة العبيد اللي كانوا يسكنوا فيها عبيد القرية اللي بخدموها. ومن هذيك التلة ما شفنا يهود في القرية فنزلنا على بيوتنا. ولما دخلت بيتنا لكيتهم فاتحين الخزنة ومازعين كل الورق اللي فيها وراميينه على الأرض".
يصمت للحظات.. بذات النبرة المرتجفة يكمل "تبين إنه اليهود كانوا شايفين إنا رجعنا على أم الشوف لأنهم واقفين على التلة الثانية ومراقبين القرية. أنا طالع من بيت أبوي وقلبي بتكطع على منظر البيت واللي عاملينه فيه وإلا مجموعة يهود بسحبوا بواريدهم عليّ وبصرخوا فيّ عشان أوقف. قالوا مين معك، رديت عليهم إني لحالي. قالوا لأ إحنا شفناكم. نادي على اللي معك. ولما ناديت الحمد لله إنه ما حدا رد".
تنساب الدموع من عينيه مجددا بينما تحضره تلك اللحظات. يعاود القول "الحمد لله إنهم تداركوا حالهم وقدروا يتسللوا قبل ما اليهود يمسكوهم. بعدين تبين إنهم شافوني من بعيد انمسكت ولما سمعوا صوت ضرب نار فكروا إني استشهدت".
يحدق في وجوه من حوله، ويردف بينما تترقرق الدموع في عينيه بانكسار "في هذيك اللحظات تشاهدت على روحي وعرفت إني ميت ميت. واحد من اليهود اللي كنت بعرفهم سألني إنت ابن مين، ولما رديت عليه ضربني كف وركبني بسيارة كلها يهود، وطلعنا على قرية صبارين وبعدين على مستعمرة زخرين يعقوب وبعدها على إسطبل خيل بريطاني وهناك اعتقلوني لمدة أيام. ما بنسى كيف جابوا كمان معتقل ومعه ولد يا دوب عمره سبع سنوات وكيف كان هالطفل ببكي وبطلب أمه طول الوقت".
يتنهد بحرقة يعود بصداها لتلك الأيام قبل ستين عاما ونيف، بينما يكمل "قعدنا بالإسطبل معتقلين لمدة خمسة وعشرين يوم. وما كنا نقدر نوكل من شدة الخوف والرعب. وأنا كنت لابس حطة فلسطينية على راسي وإجاني واحد يهودي قامها عن راسي وعصب فيها عينيّ، وعصبوا عينين المعتقل الثاني وطلعوا فينا على تل أبيب. ولما وصلنا هناك صار كل يهودي يمر يبزق علينا ويحكيلنا ألفاظ بذيئة ويسبوا على ديننا بأعلى صوتهم. وبعدها دخّلونا على وحدات عسكرية فيها معتقلين. وكانت هاي الوحدات فوق قرية يافاوية دمروها وطردوا أهلها واسمها قرية إجليل".
تخونه قدرته.يحدق في الأرض بينما تنهمر دموعه بحرقة وكأنما تلك اللحظات كانت في الأمس القريب. يعاود الحديث "ولما دخلنا الوحدات العسكرية شفنا رجال بملابسهم الداخلية وبوضع كله ذل. سألناهم إنتو مين؟ قالولنا إحنا من قرية المنشية قضاء يافا. وكانوا اليهود كل شوي بنادوا على واحد أو اثنين منهم بس ما برجّعوهم. بعدين اكتشفنا إنهم كانوا يوخذوهم يقتلوهم قبل ما الصليب الأحمر يوخذ وضعه ويعرف عنهم".
يرتجف صوته من جديد. يهمس قائلا "أيام كانت كلها ظلام وجوع ورعب. كانوا يجيبوا للواحد منا قطعة خبز ومعاها أربع زيتونات. وكانوا يضربوا رصاص عشوائي في المعتقل عشان نخاف ويصيروا يضحكوا على رعبنا. شفنا منهم الويل من كثر الإهانات والتنكيل".
يتحسس رأسه بينما يذرف الدموع. وبصوت لا يكاد يُسمع يقول "كانوا يضربوا راسي بالعصي ويصيروا يحكولي راسك بطيخ مستوي خبيبي. ويصيروا يضحكوا بطول صوتهم".
بصوت متحشرج يقول "ما بنسى يوم ما شفت واحد من وجوه قرية الطنطورة واسمه أحمد اليحيى في المعتقل. كانت عيونه مرعبة من كثر البكا والألم. كانوا اليهود معتقلينه قبل ما يشوف المجزرة اللي عملوها بأهل قريته. بس لما اعتقلوا شباب من قريته فيما بعد حكوله شو صار. وكان بحالة نفسية وصحية ما بعلم فيها إلا ربنا".
ويردف "كانوا اليهود يخلونا وإحنا معتقلين نحفر خنادق اسمها الاستحكامات. بس الطلب اللي طلبوه منا لما أخذونا على يافا كان ما ممكن بشر يستحمله".
يجهش في بكاء مرير من جديد بينما يداري وجهه بكفيه.. بصوت لا يكاد يبين من شهقات بكائه يقول "أخذونا على بيوت أهالي يافا اللي طردوهم منها وخلونا ننهب كل اللي فيها ونحمله في شاحنات لليهود. كان الموت أرحم من هذيك اللحظات اللي خلونا فيها ننهب بيوت أهلنا وناسنا. رب العالمين ما رح يغفل عنهم بعد كل اللي عملوه بالشعب الفلسطيني. منيح منا لحد اليوم إنه فينا عقول على اللي شفناه منهم".
ويستذكر الحاج أحمد صبّاح كيف علم بعد مدة من اعتقاله أن ابن عمه قد اعتُقل هو الآخر وأنه في وحدة اعتقال قريبة منه. يقول "كنت مثل الميت اللي بده يسمع كلمة تحييه. كنت بدي أعرف عن أهلي أي معلومة. كنت بدي أعرف شو صار فيهم وفي أهل القرية. اليهود ما كانوا يسمحوا لحد من المعتقلين يروح للثاني. كعدت ليالي أفكر كيف بدي أشوف ابن عمي. حفرت أنا وشب من قرية أم الفحم كان معي بالوحدة ممر من تحت الأسلاك وقدرت أنزل فيه وأوصل الوحدة الثانية وأشوفه. أهلي كان وصلهم عن طريق الصليب الأحمر بعد خمس أشهر من اعتقالي إني ما استشهدت وسمعت منه تفاصيل عن أهلي وأهل قريتي بكيت عليها دم بدل الدموع".
يحدق في ضوء نافذته بينما يستحضر لحظات الإفراج عنه. يقول "أفرجوا عني اليهود من خلال عملية تبادل أسرى. ومن هناك طلعت على القدس وبعدين على طولكرم. وكنت عرفت من ابن عمي إنه أهلي صاروا بقرية اسمها عتيل. كنت بمشي ببلادي والاعتقال لسه موجود داخلي. شفت البلاد مكسورة ومذبوحة وكنت حاسس حالي بسمع صوتها وهي بتنوح بصمت خوف من اليهود. قلبي احترق لما شفت فلسطين بعد ثمانية عشر شهر من الاعتقال".
وعن لحظة لقائه بأهله بعد فصل من العذاب تجاوز بثقل آلامه عمره الفعلي. وبدموع عادت تنساب من مقلتيه من جديد يقول "كانوا أهلي بحالة هستيرية لما شافوني. لحد اليوم مش كادر أستوعب مشاعرنا لما تلاقينا بعد ما راحت قريتنا على غفلة وبعد ما فكروا إني استشهدت وبعد ليالي الاعتقال المرعبة. مش كادر أعرف لحد اليوم هي كانت مشاعر فرحة أو حسرة أو شو. ما كان حدا فينا مستوعب اللي بصير. أكثر إشي بتذكره كيف صاروا أهلي يبكوا بجنون لما شافوا حطتي الفلسطينية اللي كانت كلها عز راحت مني وكيف حطيت بدل منها كطعة كماش ملونة على راسي".
يعود لشهقات بكائه المرير لدقائق طوال. يستجمع قواه مجددا ليقول بصوت تخنقه الذكريات "رحنا بعدها على مخيم نور شمس عند طولكرم. وبعدها إجيت على إربد في الأردن عشان أزرع بطيخ وأعتاش منه وأبعت لأهلي. وبعدها اشتغلت بمصنع الفوسفات في الرصيفة".
ترتعد أوصاله من جديد بينما ينظر بحزن ومرارة في عيون من حوله. يقول "كل اللي راح في جهة ولما كدرت أرجع على قريتي سنة 77 في جهة ثانية. القرية كلها مسحوها اليهود عن الوجود. ماعرفت حدودها وصرت أمشي فيها مثل المجنون وأدوّر على بيت سيدي وأبوي وعمي. ما لكيت إشي".
يستجمع أنفاسه بصعوبة بينما يكمل "كل اللي عرفته أرض لأبوي لسه ضايل فيها تين من اللي كنا نزرعه. وعلى هذيك الأرض شفت يهودي بلعب مع ابنه الصغير. ما كدرت أمسك حالي وحكيتله هاي الأرض لأبوي. رد عليّ هاي أرض إسرائيل. حكيتله بدي أسألك: عدل من الله إنه ابنك يلعب في أرضي وابني يلعب في الصحاري والمخيمات؟ حكالي ما بعرف. وتركني بحكي وكمّل لعب مع ابنه".
تشق كلماته دوامة شهقات بكائه المرير. يقول "شو إلهم عنا؟ هم وين كانوا أصلا لما جدود جدود جدودنا عاشوا على هذيك الأرض وزرعوها وتعبوا عليها وبنوها وفرحوا فيها وعاشوا كل أيامهم فيها؟ كيف بدي أنسى1996 دونم أرض إلي أنا وإخوتي؟ كيف بفكروا إنه كل فلوس الدنيا ممكن تعوضني عن عنبها وتينها وزيتونها وخيراتها وذكرياتي فيها؟ بس أمة ظلمت ما ظلت. ولسه الكواشين عندي ولازم يرجع الحق في يوم لو حتى لأحفاد أحفادي