لماذا لم تكتُب؟ اليوم أسألك ولست أرجو جواباً, لِمَ لَمْ تكتب؟ أيامُكَ كانتْ مثقلةً بالكلمات, فلم لم تكتب؟
من الياجور وبلد الشيخ وصَفُّورِيَّة وشَفا عمرو وكل تلك الأسماء الملئ بالذكريات, إلى بَعْلبَك وتل الزعتر وصبرا. لماذا أحتفظت بكل ذلك الكلام؟ أهديتني بعضه في لحظاتٍ عابرةٍ من الزمن, والآن وأنا أبحثُ عن البقية, فماذا أصنع؟ وكيف أكمِل؟ بل من أين أبدأ؟ ماذا أفعلُ بما معي, هل أدَّعي أني أعرفُ ما أعرِف؟ أين الخيالُ وأين الحقيقة؟ أحياناً تختلطُ عليَّ أيَّامي, فكيف أحملُ أيَّامك, وكيف أحميها من الضَياع؟
أيامُ الهِجرةِ الكُبرى لا بُدَّ كانت منحوتةً في كيانِك, فمصائبٌ بحجمِ ماعايشهُ شعبنا لا تمرُّ كأنها لمْ تَكُن. إنها تبقى كابوساً يقُضُّ مضاجِعَنا وغيماً يُعكِّر صفاءَ سمائِنا. ربَّما تقسوا القلوبُ من تراكُمِ المحنِ وتتابُعِ النوائب, لكنَّ الذكرياتَ تتربَّصُ بنا عند كلِّ فسحةٍ في طريقِنا. فكيفَ لنا أن ننسى؟ هل يحقُّ لنا أن ننسى؟
هل يحق لنا أن ننسى تُراباً سُلِبَ منا, وبُيوتاً غُصِبَتْ عُنوة, وسنابلٌ أفاقتْ ذاتَ يومٍ تبحثُ عن أصحابِها, لتجدَ أقدامَ الغُزاةِ تُخْمِدُ أنفاسَها؟ ثم كيف ننسى, والدُنيا حولنا, السماءُ والترابُ والأشجارُ والوجوهُ تُذكرُنا كل يومٍ بأنها ليست لنا؟
عندما أخَذَتْك الأيادي بعيداً عن شارعك وملعبك, كان الأمرُ بدايةً أشبه برحلةٍ عابرة. فمن أين لعقلِ طفلٍ في الثامنةِ أن يعي فداحة الترحالِ الذي أصبحَ جزءاً منه؟ هذا الترحالُ الذي قادكَ معَ الراحلينَ إلى بلدَ الشيخ القريبةِ وصفورية الأبعدِ وقرىً أخرى غابت أسماؤها عني وغابت هي عن الوجود, لتصحو أنتَ مَعَ شمسِ نهارٍ جديدٍ فتجدَ نفسكَ في بقاع لبنان. في بعلبك, أو في ما جادتْ به بعلبك من أرض ليُبنى عليها مخيمٌ للمقتلعين من أرضِهم. وليبدءِ الإنتظار. ولا ضيرَ أن نكونَ كباقي الدنيا ونحن في هذا الإنتظار. أن نكبَرَ ونتعلَمَ ونتوظفَ ونسهرَ ونُحِبَّ ونتزوج, ولكن نبقى في الإنتظار. تكبُرُ الدنيا معَنا وتكبر أحلامنا وعائلتنا والإنتظار.
لكن في الإنتظار, في انتظارِ العودةِ نبتعد. بدلَ الياجور بيروت, ثم بدل بيروت الدنيا كلها. ولكن لا فلسطين. لننتظر أكثر. الإنتظارُ يكبر والبُعاد يكبر, فأيُّ أملٍ يُبقي الفلسطيني مُتمسِّكاً بالحياة؟ أيُّ إرادةٍ أرسلتْ كلَّ هذا الألمِ إلينا, وأي إرادة أهدتنا الصبرَ عليه؟
شارك بتعليقك