فلسطين في الذاكرة من نحن تاريخ شفوي نهب فلسطين English
القائمة الصراع للمبتدئين دليل العودة صور  خرائط 
فلسطين في الذاكرة سجل تبرع أفلام نهب فلسطين إبحث  بيت كل الفلسطينيين على الإنترنت English
من نحن الصراع للمبتدئين    صور     خرائط  دليل حق العودة تاريخ شفوي نظرة القمر الصناعي أعضاء الموقع إتصل بنا

قباعة: روايات التغريبة الفلسطينية

مشاركة anwar shawaheen في تاريخ 2 كانون ثاني، 2008

صورة لقرية قباعة - فلسطين: : الدكتورة / امال فتحي شاهين / استراليا أنقر الصورة للمزيد من المعلومات عن البلدة
روايات التغريبة الفلسطينية ( حلقة أولى )
حكاية قصيدة من معتقل عتليت عام 48 والردّ عليها بديوان شعر
توثيق : وديع عواودة

بحنين وانفعال شديدين استذكر شاعر الفصحى والقصيدة العامية الفلسطينية البارز الأستاذ سعود الأسدي ( أبو تميم ) رواية من روايات التغريبة الفلسطينية وحكايته مع الشعر ، وروى كيف رّد على قصيدة أرسلها له والده الشاعر الشعبي الراحل محمد أبو السعود الأسدي من معتقل عتليت حينما كان قيد الأسر الإسرائيلي عام 48 بديوان شعر بعد 28عاما.
حيث موطن ذكرى الحبيب والمنزل فاض ينبوع الشاعر سعود الأسدي قصصاً وقصائد ونوادر اختزنتها ذاكرته منذ عقود ولا تزال " طرية ندية " ينتقيها ويقدّمها لسامعه بمتعة كبيرة كأنه يستذكر حبّه الأول .
من مكان إقامته في الناصرة ترافقنا إلى دير الأسد في الجليل مسقط رأسه ومرتع طفولته وصباه فلم ينقطع تسلسل رواياته ذهاباً وإياباً لكنه تجلّى وجاد علينا بحديثه العذب الشائق حينما استقر قبالة مكتبة والده في منزل شقيقه الأستاذ فيصل الأسدي ، وهي المكتبة التي نهل منها في صغره وأشقاؤه الأربعة اللغة والشعر والأدب والثقافة من كتبها القيمة .
وعند السؤال عن قصيدة والده قال الأسدي :
إن قوات الاحتلال ( الهاجاناه ) دخلت قريته دير الأسد الوادعة عام 48 بلا طعن ولا ضرب ، أو برداً وسلاماً كما يقولون ، وكانت آخر قرية تسقط بعد سقوط الجليل الأعلى ترشيحا وجميع قرى الشمال . وكان كما كنا نسمع " أن الأوامر أتت لجيش الإنقاذ بترك الساحة والانسحاب إلى ما رواء حدود فلسطين " . وكان أن رفع أهل قريتي الملاحف البيضاء على سطوح المنازل كعلامة استسلام دون أن يضربوا طلقة نار واحدة .
جاؤونا من الشرق من طريق قرية الرّامة ، ولما وصلوا أرض ( الصُّدَر ) حيث مدخل مدينة كرمئيل اليوم بانت لهم بيوت القرية الطينية البيضاء المتراصة كعشّ الرُّتيلاء ، وبلّشوا بإطلاق نيران كثيفة باتجاه البيوت من أسلحة أوتوماتيكية ( رشّاشات ثقيلة ) بعيدة المدى ، وقد أصابت إحدي الرصاصات عتبة دار أبو نعيم أحمد الحاج الذباح ،( ولا يزال أثرها في الحجر ماثلاً كشاهد عيان ).
ولما دخلوا القرية بمصفّحاتهم قاموا بجمع أهل القريتين الجارتين دير الأسد والبعنة من " الكبير للصغير للمقمّط بالسرير" بجانب المسجد القديم مسجد جدّنا الشيخ محمد الأسد الجيلاني في حاكورة أبو محمد قاسم رشيد ، وضربوا حولهم أسلاكاً شائكة وحذّروهم بمكبّر صوت : أن كل من يحاول الهرب يطلق عليه النار بلا سابق إنذار .
وأشار الأسدي إلى أن عسكر الهاجاناه نسف في حينه دارين بدير الأسد : دار المختار محمود السعيد الخطيب ، ودار محمد العكّاوي فدوّى صوت التفجير وتردّد صداه في جبل الدير ومغاوره ، ووصل العجاج عنان السماء ، فشعر الناس وكأن السماء قد أطبقت على الأرض مما أثار الرعب في نفوس الناس خاصة النساء والأطفال.
ونوّه الأسدي إلى قيام الجيش الإسرائيلي المحتلّ بفصل الرجال عن النساء والشيوخ العُجُز والأطفال قبل أن يسوقوهم في طابور طويل سيراً على الأقدام ( كأسرى حرب وإن لم تطلق من قبلهم ولو رصاصة واحدة ولم يُقبض عليهم في معركة مستسلمين رافعي الأيدي ) ، وسارت مصفحات الجيش من أمامهم وخلفهم ومدافعها الرشّاشة مولّفة لإطلاق النار على من يحاول الهرب.
وهنا تدخّل الأستاذ فيصل بسرد رواية عن والدته ، بعد أن أكّد ما رواه أخوه سعود بقوله :
" كانت أمي ( وقد كنت طفلا رضيعاً ) قد شدّت وسطي بزنار عريض بعد أن خبّأت فيه مصريّاتنا ( نقودنا ) ولفّعتني بالدماجة " .
وكان جيش الهاجانه قبل أن يسوق طابور الرجال سيراً على الأقدام نزولا من شارع القرية الترابي إلى الشارع السلطاني العام شارع عكا ـ صفد ، وصولاً بهم إلى قرية الرامة، كان قد اختار أربعة شبّان بالإشارة إليهم من بين الأهالي المتجمعين بين أشجار الزيتون في حاكورة قاسم رشيد ، اثنين من دير الأسد من العائلتين الكبيرتين الأسدي والذبّاح ( أحمد عبدالله عيسى الأسدي وصبحي محمود الحاح الذباح ) ، واثنين من البعنة واحد مسلم والآخر مسيحي (علي محمد العابد وحنا إلياس فرهود ) ، ولم يكن الاختيار على ما أعتقد صدفة ، بل مقصوداً لتكون الفاجعة على عموم أهالي القريتين . وكان أحد الجنود قد أحضر أريع صفائح جيشية وناول كل واحد من الأربعة صفيحة وأمرهم أن يذهبوا بصفائحهم ليجلبوا ماء من العين الشرقية ، وبالطريق إلى العين أمرهم الجند المرافقون أن ينبطحوا على الأرض ، وقتلوهم بإطلاق الرصاص عليهم بدم بارد عن بعد أمتار . وكانت زوجة قاسم أبو زيد الأسدي ، قد رأت هذا المشهد المرعب وهي في بيتها المحاذي للطريق من شقّ النافذة ، ولما سمع الناس إطلاق النار بالأسلحة الأوتاماتيكية أيقنوا أن الشباب الأربعة قد قتلوا فدبّ فيهم الفزع والهلع . وبعدها أمر الجيش الناس أن يهجّوا وينصرفوا إلى لبنان وسوريا بعد اعتقال الكثير من الرجال ".
وعاد أبو تميم وعلق قائلاً إن الناس هربوا بالطرد القَسْري وبسبب الرعب جعل بعضهم وجهته إلى لبنان وسوريا ، والبعض الآخر لجأ إلى الأوعار وخاصّة أرض ( الماحوز ) شمالي القرية وإلى الشرق من قرية يركا الدرزية. وكان قد حضر ليلاً بعض أهالي قرية يركا إلى الماحوز للسؤال عن أصدقائهم الراحلين من دير الأسد ، وللوقوف على ماذا جرى لهم ومد يد العون . وأخصّ بالذكر منهم الشيخ سليمان غبيش ( أبو نوّاف ) جاء ليسأل عن جدّي (حميّد ) بسبب الجيرة الحسنة بمواقع الأرض ورابطة الصداقة المتينة الموروثة عن الآباء والأجداد ، فوجدنا مفترشين التراب فأخذ يبكي وجدّي على ما أصابنا ، ووقف في وجهنا ومنعنا من النزوح إلى لبنان ، وأخذنا جميعا ( أمي وإخوتي وامرأة عمي قاسم وأولادها إلى ( يركا ) وكذلك دوابنا ( ثلاث بقرات وثور وحمار ) ، وآوانا إلى بيته ريثما تروق الحالة ، وتستتبّ الأمور. وفعلاً بقينا نحن في يركا ، لا أنسى أن أذكر أن كثيرين من أهل قريتنا لما رأونا متوجّهين إلى قرية يركا بصحبة سليمان غبيش تنبّهوا إلى أن لهم معارف وأصدقاء فيها فغيّروا نيّتهم في الهجرة إلى لبنان وتحوّلوا إلى يركا لدى أصدقائهم .
وبقينا في يركا أسابيع عديدة حيث وجدنا الأمان والعون والضيافة والترحاب. بينما تابع الكثيرون من الناس طريقهم إلى لبنان مكرهين غير مختارين ، وأصبحت بيوت قريتنا خالية خاوية إلا من الدجاج السائب والكلاب المتضوّرة العاوية والحيوانات الجائعة المشرّدة ، وكان بعض أهل قريتنا ونحن في يركا يتسللون إلى القرية ليلا ليأتوا بالحبوب من قمح وعدس وذرة وبرغل وتين مجفّف ودبس خرّوب من أجل القوت " .
وهنا يستذكر الأستاذ فيصل أن الجيش الإسرائيلي اقتاد " أسرى الحرب " من دير الأسد والبعنة إلى قرية الرامة ثم إلى قرية المغار ، وحشروهم في حاكورة لشخص من عائلة عرايدة ، وعند الصباح شحنوهم بباصات إلى مركز شرطة نهلال فباتوا ليلتهم ، وفي صباح اليوم التالي شحنوهم إلى معتقلي عتليت وصرفند ، وهناك التقوا بجموع غفيرة من الأسرى العرب من عموم أرجاء فلسطين .
وهنا تدخل أبو تميم فقال :
" لما كان أخي فيصل طفلاً رضيعاً كنت في العاشرة من عمري ، وأذكر أنني وأخي أمين رحمه الله كنا في أرض لنا تُدْعَى ( الشكاير ) ننطر بندوراتنا ، ولم نحضر اليوم الذي وصفه أخي فيصل ، وبعد أن قتل الجيش الأسرائيلي الشبان الأربعة ، وطرد أهل القرية ، وساق الأسرى جاءنا جدي حميّد ، وقد كنّا نلعب بالتراب نكيله بغطاء كبسولة قنبلة مدفع من مخلّفات قذائف مناورات الجيش البريطاني ، ونادانا من مكان مرتفع ( خلّة العبابسة ) فنهضنا إليه مسرعين وروى لنا ما حدث ، فأحسسنا بصدمة مريعة ، ولم ننبس بكلمة وتبعناه إلى الجبل لنلتقي بالنازحين إلى جهة الشمال ، ولكن أمّي لم تكن تعلم أن جدي بسبب الارتباك قد سبقها لمناداتنا فأتت هي من باب ( عين البيّاضة ) ، ولما رأتها المصفّحة الإسرائيلية من بعيد انثنت إليها، وهمّت باللحاق بها ، وكانت أمي تحمل على خصرها أخي فيصل ( المزنّر بالمصريّات ) ، وكان الرصاص يوزّ من فوقها وعلى جانبيها ويعفر بين قدميها فألقت بنفسها في حفرة عميقة وغطّت رأسها والطفل بنبتة شائكة كبيرة ( بلاّنة ) كانت مقلوعة ، وكأنما كانت الحفرة والبلاّنة معدّتين بعناية ربّانية لستر أمي وأخي فلا تكشفهما المصفّحة الأسرائيلية ، حارت المصفّحة بشأن أمي ! أين ذهبت ؟ أين اختفت ؟ وكأنما الأرض انشقت وبلعتها ، ويا للفزع والرعب مرّت المصفحة هادرة مزمجرة من فوق الحفرة التي تختبىء فيها أمّي وفيصل وهي تضمّه إلى صدرها ، وكأنّما ألهمه الله في تلك اللحظة ألاّ يبكي أو يصرخ ، وبقي لابداً معها .
ظلّت المصفّحة متّجهة إلى جهة الشرق حيث كنا قبل دقائق أنا وأخي أمين نلعب ونكيل التراب ، ولما لم تجد المصفّحة أحداً التفّتْ بين بندوراتنا متلفة كل ما مرّت به وعادات أدراجها . وكانت قد سبقتها أمي بالعودة والهروب متوارية بكروم الزيتون . وشاهدت كل ما حدث أمامها ، وكان أن نجت وأخي فيصل بأعجوبة " .
وبانفعال شديد حتى كادت الدمعة تفر من ناظري الأسدي أستأنف استحضار ذكريات طفولته المصدومة . وعاد ليقول إن أهل قريته مشوا في الوعور شمال القرية ونزلوا أرض " الماحوز " ينتظرون ما يخبىء لهم القدر . حتى قدم إليهم الشيخ سليمان غبيش ، ولجأوا إلى يركا كما روى في البداية . وأضاف " بقينا في يركا قرابة شهرين ، وفي الأيام الأولى من الهجيج بلغ عدد اللاجئين إلى قرية يركا قرابة خمسين ألفاً بموجب تقديرات الشيخ مرزوق معدّي كما روى لي أحد أنجاله . وجلّهم من مدينة عكا وقرى الساحل قرى النهر : ( الكابري والسميريّة والغابسيّة وأم الفرَج ) ، والمزرعة وكويكات والمكر وجديّدة والبروة والدامون وميعار وكابول إلى آخره . وللتاريخ أقول : لقد كانت وفود النازحين مكرّمة في قرية يركا ، وقد زوّدهم أهلها بالماء والخبز المبسوس بالزيت في زمن شحّ فيه الماء فضلاً عن الخبز والزيت . وأما الرجال الذين أُخذوا أسرى فلم نكن ندري أين هم ؟ هل هم في برّ أو بحر أو في أرض أو في سماء.؟
ويروي أبو تميم أن الأهالي عادوا بعد نحو شهرين أو أكثر أو أقلّ إلى ديرالأسد فيما نزح بعضهم الآخر إلى لبنان حيث يقيم إلى اليوم أبناؤهم وأحفادهم في المخيمات : عين الحلوة ، والرشيدية ، والبدّاوي وسواها .
ويتابع الأسدي روايته : وفي أحد الأيام بعد أن عدنا إلى القرية قام ناطور القرية ( سعيد بكرية ) بمناداة الناس " : يا فلاحين يا اهل البلد اللي في إلو أسير يروح عالحارك عند قاسم حسين اليوسف ، ويوخذ مكتوبو أجت مكاتيب من الأسرى بواسطة الصليب الأحمر والحاضر يعلم الغايب ".
وما زالت تلك الحادثة محفورة في وعي الأسدي الذي لم تنسه إقامته في الناصرة منذ الستنينات اللهجة الديراويّة المميزة ، فقال وكأنها وقعت بالأمس : أية ساعة فرح تلك !! ركضت حافياً وركض الكثيرون من الأطفال أمثالي حفاة كما كنا في ذلك الزمان إلى بيت أبو جبر قاسم الحسين ، ولما وصلني الدور فضّ أبو جبر رحمه الله رسالة أبي ، وقرأها على مسمع الجميع وناولني إياها فرحاً مسرورا قائلاً : الفرج قريب والرسائل علامة ، فأخذتها وطرت بها ، وكان رأسي يسبق قدميّ إلى البيت .. ومن عتبة بيتنا رحت أقرأ الرسالة وكنت ابن صف ثالث وأحسن القراءة.. وفاضت دموع جدي وأمي وبعض الجيرة ممن حضروا حينما شرعت بتلاوة رسالة أبي الشعرية بعد المقدمة النثرية المطوّلة من التحية والسلام والسؤال عن الأقارب والأصحاب وأهل البلد عموماً :

حـنَّ الفؤادُ لرؤيــةِ الأولادِ فبكيتُ أهلـي والحِمَى وبلادي
وطفقتُ في حكْمِ الأسيرِ مغرّداً بالهجــرِ والتقييـدِ والإبعـادِ
قامتْ بناتُ الشعـرِ في أحزانِنا وَدَقَقْنَ من فـوقِ الصدورِ أيادي
لولا مُنـادٍ في المنـام يقول لي : إصبرْ على حُكْمِ القضا يا حادي
لَظننـتُ أني بينَهُـنَّ بمأتـمٍ ولخلتُ أن الموتَ ضمْـنَ فؤادي
فإليـكَ مني يا ( سعودُ )تحيتي وإلى ( الأمين ) بُغْيـتي ومرادي
عَرِّجْ على المأمونِ مرجعِ مجدِنا أملـي بـه فهو المسيـحُ الفادي
وَ ( لفيصلٍ ) مني تحيـةُ والدٍ وهـو الصغيرُ وفي السرير يُدادي
أوصيكـمُ في والـدٍ متألـمٍ سَئِمَ الحياةَ علـى البنيـنَ يُنادي


وبعد الإفراج عن الأسرى في ربيع 1949 بادرني والدي بالسؤال خلال استقبال المهنئين في بيتنا من الأقارب والجيران عن القصيدة وسائر الرسائل فأجبته : هي في خزانة أمّي . فقال : أحضرها ! فقلت لا لزوم لإحضارها من مخبئها في الخزانة كوني أحفظها عن ظهر قلب.
ويشير الأسدي أن والده سأله بعد إنشاده القصيدة : ليش يا سعود ما ردّيت علي بقصيدة ؟! وكان أن ارتبك ، ولم يُحِرْ جوابا ولاذ بالصمت خجلاً " إذ لا علم له بالشعر يومها سوى أنّه كلام موزون ومقفّى وغير عاديّ " . ولكن كلمة والده ظلّت تلازمه ، وتقرع خزّان ذاكرته بين فترة وأخرى .
وبعد فترة صمت قال فيصل : أعتقد أن والدي لم يرد أن يربكك بسؤاله : لماذا لم تجبني بقصيدة ؟ فلربما أراد أن يستحثّك ملفتاً نظرك لأن توجه اهتمامك لفن الشعر ! وهنا أشرق وجه الأسدي غبطة واعتداداً وقال ضاحكاً : نعم لقد أحسست يومها أن شاعراً ولد في داخلي وعليّ أن أتعهده .
وهكذا كان فما أن اشتدّ ساعده حتى بدأ يقرض الشعر وينشره في صحف الستينات من القرن الماضي ، ولكنّه كان يشعر أنّ لوالده عليه ديناً ينبغي سداده ، حتى كان عام 1976 فأتي سعود لوالده ليلة رأس السنة الميلادية لا بقصيدة واحدة جواباً لقصيدة ( حنّ الفؤاد لرؤية الأولادِ ) بل بديوان كامل : " " أغاني من الجليل"، وهو أول ديوان شعر في فلسطين باللغة المحكية أو الزجلية. وهنا أضاف:
ويوم أن قدّمت الديوان لأبي قال أبي بدهشة : لم تنس الموضوع يا سعود منذ 1948 ؟.. طوّلت عليّ بالردّ يا سعود ! فقلت : خير لك ولي أن أردّ بديوان مدروس من أن أردّ بقصيدة مرتجلة .
وهنا انبرى فيصل وقال إن الرسالة الوحيدة اللي ظلت بحوزتهم من الأسر هي بخط عمّه أبو غازي ، وقد ردّ عليها يومها الأستاذ المربي المرحوم علي محمد طه الأسدي . وأضاف وهو يمسك بالرسالة وكأنها صفحة من كتاب مقدس : كان نظام الرسائل في المعتقل يقتضي أن يرد المرسَل إليه على ظهر رسالة المرسِل كما ترى " وقرأ الرسالة.
واستذكر فيصل شذرات من رواية الأسر على لسان والده الذي حدثه عن قتل الجنود أسيراً من غزة حاول التسلّق على سياج المعتقل للهرب فضربوه بالنار ، وبعد سنة 1967 ومن عجائب الصدف قال فيصل : إنّ أخي يحيى وهو أصغر أخوتي روى قصة الأسر هذه وقتل الأسير الغزاوي كما سمعها من والدي أيضاً أمام عامل بناء من غزة أثناء عملهما في تل أبيب ، فتوقّف الغزاوي عن العمل مبهوتاً وقال : هل تعرف يا يحيى أن هذا القتيل الذي حكى عنه أبوك هو والدي ، وأدار وجهه ، وأجهش في البكاء !
ولم يُخْفِ أبو تميم حبه لوالده واعتزازه به وبثقافته وحكمته وحضوره فأشار إلى أنه كان شاعراً شعبياً مرموقاً .. والفضل يعود لوالدته التى أدخلته المدرسة في زمن كان معظم لداته أميين ، تعلّم إلى الصفّ الثالث ُم أخذ يقرأ الكتب وخاصة الشعر وقول الزجل من شروقي وعتابا وميجنا ومعنّى وحداء مربّع ومثمّن ، وفي رمضان كان يختم القرآن ويجوّده ، وتابع مفتخراً " كنا نعتبره معجمًا لمفردات القران وآياته .. كان يعلم أين ترد كل آية في أي جزء وفي أيّ سورة ، وكنا نسأله وكان يجيب بمنتهى الدقّة " !
وينوه الأستاذ فيصل وهو الآخر يحبّ شعرالمتنبي كشقيقه سعود بقوله : المتنبي صديقنا ، ويضيف مبتسماً بينما أبو العلاء المعري شقيقنا ، فهذا ألمأمون أخي ينام وديوان اللزوميات إلى جانبه .
واستكمالاً لرواية التغريبة الفلسطينية هذه فقد علمت أن أبا السعود كان في معسكر عتليت شاعر الأسر ومؤذّنه وإمامه ، وقد أُعفِيَ من الخروج إلى العمل مع الأسرى نهاراً لكي يؤذّن ويقيم الصلاة للأسرى العاجزين عن العمل ، وكان هو وشقيقه قاسم (أبو غازي) يتحاوران بالزجل غناءً للأسرى ليلاً لتخفيف المعاناة .
ويستذكر أبو تميم مكتبة والده العامرة بدواوين الشعر من جميع عصور الأدب العربي ، وكتب الثقافة العامة منها كتاب قديم ونادر لشكيب أرسلان ( الحلل السندسية في الآثار والأخبار الأندلسية) في الوقت الذي خلت فيه القرية في ذلك الحين من دفتر ، و " كنا نحرص على تلك المكتبة ونعمد إلى تغليف كتبها بأوراق الجرائد وأكياس الإسمنت .
وقال أيضاً:
أذكر أنني في الستينات كنت سبباً في ضياع ديوان أمير الشعراء ( الشوقيات ) ، وكان والدي بين الحين والآخر يسألني عنه : لمن أعطيته ؟ وكيف أضعته ؟ ألا تتذكّر ؟ وكان أن اشتريت له من مكتبة في جنين بعد ال 67 نسخة شوقيات جديدة تعويضاً عن النسخة القديمة ، ولما تصفّحها قال : أين الثرى من الثريّا ؟ قلت ما الفرق ؟ كلّه كلام أحمد شوقي !! قال صحيح ولكن تلك النسخة كانت إهداء لي من عطوفة رئيس حكومة عموم فلسطين صديقي أحمد حلمي باشا !!
ويؤكد الأخوة الأسدي شكرهم لوالدهم الذي عرفهم على لغة الضاد وكشف لهم على مفاتنها وأسرارها حتى باتوا مولعين بحبها إلى درجة قيام أبو تميم في أواسط الخمسينات من القرن الماضي بنسخ ديوان المتنبي بخطّ يده استعداداً لحفظه ، وقد استعاره والده له من صديق له من عائلة فرحات من مجد الكروم وأضاف " نسخت ستة آلاف بيت شعر بخط يدي وما زلت أحتفظ بالنسخة ، وبعدها نسخت رباعيات الخيام ترجمة محمد السباعي ، وبعض دواوين نزار قباني وغيرها سنة 1957".
أما شقيقه مأمون فهو عضو في نادي المغرمين بالعربية وكنوزها فهو حافظ معظم لزوميات المعري فيما يحفظ شقيقه الأصغر يحيى " رنات المثالث والمثاني " للأب لويس شيخو اليسوعي الصالحاني بعد أن نخّل كتاب الأغاني الأم خمسة وعشرين جزءاً ، مثلما يحفظ كتب سلام الراسي ويرويها ، ولا ينفكّ يردّد ، وهو يرى أن الكتاب خير جليس :
حُطّ الكُتُبْ في القلبْ مشْ في المكتبِِه
واحكمْ على الإنسانْ بعـد التجربِه
وْفي لغتْنــا شُـوفْ معنى الموهبِه
في لفظْ موجـزْ فـي معاني مُسْهَبه
ولمـا أبــو الطيّبْ عِلِيْ في المرتبِه
بحقّلو من حيثْ فنّو يعــــربي
وْبعد النبـي وْلـو كان ما في أنبيا
ما فشّ مانع بالشعِـر يطلعْ نبي !!
وأما أخوهم المرحوم أبو يوسف أمين فهو شاعر الفطرة والسليقة ، وقصائده النقدية والتهكمية ذائعة في قريته ، وعند معارفه ومن أظرفها قصّة خُصّ أبو نظمي :
وكان المرحوم أبو نزمي ( نظمي ) وأمين جارين ، وولاد عمّ ، وكان أبو نزمي سريع الغضب ، سريع الرضا ، وياما كان يتزاعل مع أمين إلى درجة ما كانوا يحكوا مع بعض ، وفي يوم أجا أبو نزمي بدّو يجوّز نزمي ، فنصب بجنب بيتو خربوش زغير ( خُصّ ) لتحضير القهوة للعرس ، وعزم بعض قرايبو وصحابو للتشاور بخصوص العرس : الدعوات وشو بلزم من شحم ولحم وطبخ ونفخ ، ودخّان ومخّان لكنو ما عزم امين بسبب " الزعل " !
صار أمين يحوص ويلوص بدو يلاقي طريقة يصولح فيها أبو نزمي ، وأبو نزمي قلبو بقول شُق بُقّ مهلِّك بدو يصولح أمين .. أجا أمين لرئيس المجلس السابق إبراهيم قاسم الحسين ، وقللو : إعمل حالك يا بو إياد أنك أجيتني وترجّيتني أصولح أبو نزمي ,إني ما فشَّلتك ، ومنقوم ومنفوت أنا وايّاك لعندو عَ الخُصّ ، ومنتباوس ويا دار ما دَخَلِكْ شرّ !!
وفعلاً هيك صار ، ولما تعابطوا وتباوسوا صار أبو نزمي من شدة التأثّر ( وكان سخيّ الدمعة ) يبكي , أما الأمين فقد تظاهر بالبكاء ، ولما راق الديوان قال أبو إياد لأمين ما عندك هيك شي تقولو في "خُصّ " عرس أبو نزمي ؟! فقال أمين خُصّ أمير عرب ! فقال أبو إياد : خُصّ أمير عرب فهمنا بس شو بتقول من القول يقصد الزجل ؟ فرفع أمين صوته قائلاً :
نْزِلْت البحر وْصِلْت النُّصّ
وخايف لاغْــرَق بِعْبابو
يا ربّي تْوَفِّـقْ هَـالخُصّ
وِتْهَـدِّي بال صْحــابو
فردّد الحضور الردّة مبتهجين ، وأعادوها ، وقام أبو نز مي يرقص ، والنسوة من الشباك تُهاهي وتزلغط !!
فقال أبو إياد : هذا القول يا أمين لأنكو اليوم اصطلحتو ، وإذا بكره تزاعلتو شو بتقول
فحكّ أمين جبينه وغنّى :
نْزلت البحر وْصلت النص
وخايف لاغــرق بعبابو
يا ربّـي يْهَبِّـطْ هالخُصّ
وتُعْفُـرْ عا راس صْحابو
فهجم أبو نزمي عل أمين وبلّش على راسو وعلى جنابو بهالعقال تاشبّعو قتل ، وقاموا الموجودين بالوجه يا بو نزمي! حتى فكّوه منه ، وقام طرق الضحك للسما العالي ، وأبو نزمي مبسوط ، والكل فرحانين رحمهما الله .

لكن القصيدة ليست الإبنة المدللة الوحيدة في منازل الأخوة الأسدية فالآداب العالمية ، وكتب الفنون ، والموسيقى الكلاسيكية لا تبرح مسامعهم ويتنقل أبو تميم بين الغناء العربي الكلاسيكي والموسيقى الغربية : بيتهوفن وباخ وموتسارت وغيرهم ، فتراه كالنحلة الحائمة على أطيب الزهر من بستان إلى بستان." هذه موسيقى ساحرة تنطق بلا لسان ، وتدغدغ الحسّ ، وتغذي الروح بلا حدود وتسهّل جريان الدم في الشريان ".
وأبو تميم الذي يحتفظ بمكتبة موسيقية غنيّة جدّاً باسطواناتها ومصادرها ، ويواظب على سماعها بجهاز " فونوغراف متين " في منزله ، بعدما زرع محبتها في نفوس أولاده ، ومنهم من لم يبعد عن شجرة التفاح ، فهم يعزفون على الآلات ويغنون ، ويقرضون الشعر . وتميم ليس " فرخ بطّ عوّام " فحسب بل يمتاز بفصاحته ، وطول نفسه ، ومقدرة مدهشة على الارتجال ، وهو حسن الصوت وبديع الإنشاد ، وأستاذ لغة عربية متمكّن كأبيه .. قال المرحوم جدّه يوم أن سمعه يزجل لأوّل مرّة :
إلإبنْ لمّا الأهِــلْ عَ الدنيا جَبُوه
وْبشّـروا الوالـدْ بـهِِ واليِقْربوه
بحبي تيمشي وان مشـي بدرّبوه
تا يصير يركضْ في مجـال يْصَعّبوه
بقفز عَ ظهر المهر مش تا يركّبوه
وبحوّطوه من العين أحسن ليصبوه
بطلَع لبوه بالطبعْ وانْ ما كانْ هيكْ
يا حوينتـو يللي ما بِطْلَـعَ لأبوه


وكشف أبو تميم سرّاً آخر بالإشارة لمصدر الفن لدى عائلته التي يبلغ عدد المتعاطين مع الفنون فيها نحو الأربعين ، بقوله : إنها الجينات أو الصفات الموروثة ، فإنّ جدّته لأبيه سورية الأصل من حوران ، وكان أخوها أسعد يوسف الحوراني شاعر ربابة متفوّق .. أما هي فكانت منبع الكلمة الجميلة والذوق ، وبفضلها تعلّم ولدها فنون الشعر حتى صار شاعرًا شعبيًا صيته ملأ الديار بعدما أحيى عرسا في قرية "بيت جَنّ " أواسط العشرينات من القرن الماضي ، وهو في السادسة عشرة من عمره لدى الشيخ المرحوم علي اليوسف ،كبير العائلة الأسعدية ، وكان هذا العرس فاتحة مسيرته الفنية التي امتدّت قرابة ستين عاماً .
وفي الختام نقتبس من " نسمات وزوابع " للشاعر سعود الأسدي :

أنشودة للشعر

يا شعـرْ يا مْفَـرِّحْ قلـوب الناسْ
إفْـرَحْ معـي بالنـاس ولا تبكي
وْغنِّي معـي للنـاس قِيم عْـراسْ
وفي السَّحْجِة غنِّي وْغَنِّي في الدّبْكِه
وانثـرْ معـي الألمـاسْ عَ الألماسْ
وْعا كل مبسـمْ أُرْسُـم الضحكِه
حتى تشـوف الكاس يِعْشَقْ كاسْ
والبـدر عا كتْف الشمِس يِِرْكي
وْحتى تشوف الطيـر بالإحساسْ
صَـدّاح وِيْصير الفَـرَحْ شِرْكِه
وْحتى الشجرْ يللي غِـدِي يبّاس
يِخْضَرّ وِتْـراب الوطـن يِزْهِر
وِالصّخر يحكي بْدون ما يحكيْ
ـــــــــ
*وديع عواودة أديب صحفي وإعلامي فلسطيني .



إذا كنت مؤلف هذه  مقال وأردت تحديث المعلومات، انقر على ازر التالي:

ملاحظة

مضمون المقالات، المقابلات، أو الافلام يعبر عن الرأي الشخصي لمؤلفها وفلسطين في الذاكرة غير مسؤولة عن هذه الآراء. بقدر الامكان تحاول فلسطين في الذاكرة التدقيق في صحة المعلومات ولكن لا تضمن صحتها.

 

شارك بتعليقك

 
American Indian Freedom Dance With a Palestinian


الجديد في الموقع