بقلم: رنين جريس ونبال فاعور- هواري
2009
احد البيوت المتبقية بجوار مقام النبي سبلان
الى الشمال الغربي من مدينة صفد، وعلى ارتفاع 814 مترا فوق سطح البحر تقع قرية
المزار- المنسوبة الى مزار النبي سبلان. تطل على جنوب لبنان وجبال الكرمل، وتحتضنها
من الشرق قرية سعسع ومن الشمال حرفيش ودير القاسي ومن الغرب سحماتا ومن الجنوب
سلسلة من جبال الجرمق. حول حكاية القرية وتفاصيلها الصغيرة الضاحكة والحزينة،
قابلنا ضيا فاعور وابنها محمد في قرية ترشيحا، لنعود معهم الى الوراء والى تفاصيل
الحنين.
أهل المزار
أنشئت القرية على زمن حملة نابليون، وعن هذا حدثنا محمد احمد فاعور
(1937):
"جدنا الأول كان اسمه سليمان الحريري، مصري من الإسكندرية، وسليمان كان ضابط بالجيش
المصري، هرب على فلسطين لما نابليون شنّ حملته على مصر. وصل لجبل سبلان وسكن جنب
المغارة، وبعد مدّة رجع على مصر وجاب عائلته وعاشوا بفلسطين وخلّف ولد وسمّاه عمر.
سليمان نذر نفسه لخدمة المقام وبنوا الهم غرف جنب المغارة لخدمة الزوار ومع الوقت
صاروا يسموا أهل البلد بـ "أهل المزار". سبلان مقسمه لعائلتين، عائلة عمر ابن
سليمان الحريري وعائلة خليل. إحنا بالأصل من نسل عمر وجدنا فاعور اجا بعدين. ولليوم
بعدها غرفة عمر موجودة جنب المقام وبقولولها "خُشّة عمر". بعد بفترة اجا على سبلان
رجل من عائلة خليل، وسكن بسبلان وتجوّز بنت من بنات سليمان الحريري، وهيك صار
عائلتين بالبلد. بس بعد بفترة رحلت عائلة خليل لأنه ما كان عندهم رزق وأراضي فيها،
ورحلوا على بلد جنب سعسع اسمها غباطيّة، هاي البلد هم بنوها. هناك اشتغلوا بأراضي
لإقطاعي من صفد من دار عبد المجيد قدّوره، وعاشوا فيها".
سابا لان
ويضيف محمد فاعور: "أنا حافظ البلد غيباً، بيت ببيت. البلد كان فيها
بين الـ 25 -30 بيت. لما طلعنا من سبلان كان عمري 11 سنة، وبذكر أول ليله من
التهجير ما عرفت أنام وصرت اعد بأهل البلد وحتى الطفل اللي خلق بنفس الليلة عدّيته،
وطلعوا معي 96 نسمه. وإذا منجمع أهل غباطيّه وأهل سبلان سوا بكون عددهم حوالي 200
نسمة عام 1948".
وعندما سألناه عن مصدر اسم القرية أجابنا: "في روايتين حول مصدر الاسم سبلان،
الرواية الأولى بتحكي عن رجل اسمه سابا، كان ساكن بالمنطقة وكان دايماً بحرب ومشاكل
مع كل القرى المجاورة، ولما تغير وتصالح مع الجيران قالوا سابا لان ومع الوقت تحول
الاسم الى سبلان. أما الرواية الثانية بتقول انه سبلان هو واحد من أبناء سيدنا
يعقوب ومن هناك اجت الكلمة، وبهاي النقطة محتارين نقرر. بالوثائق مكتوب "نبي الله
سبلان" والختيارية على زماني هيك كانوا ينادوه، بس احنا اختصرناها ومنقول النبي
سبلان.
عنزات سبلان
ضيا حسين محمد عمر- فاعور (1916)، والدة محمد، عاشت القرية بكل
تفاصيلها وحكاياتها، ومن مخزون ذكرياتها حدثتنا:
"كنا ساكنين بسبلان، وعايشين من الفلاحة، كنا نفلح وندرس ونجيب قمحنا ونزرع دخان
وتين. بسبلان ما كان في نبع مي، وكانت الناس تنزل على وادي الحبيس تعبي وتغسل.
بسبلان كان عنا بيرين ولليوم موجودين، بير للزوار وموجود تحت المقبرة غرب البلد،
وبير نملّي منه ونسقي الطرشيات وهو موجود باب المقام. أنا وصاحباتي كنا نروح نحطّب
ونحمل على روسنا، بس الرجال مساكين، كانوا يحطبوا على الدواب (ضاحكة).
مقام سيدي سبلان كان حدنا وكنا نزوره ونحافظ عليه ونصلي فيه، وكان يساعدنا بمشاكلنا.
كان مثلا اللي ما يجيب أولاد ينزل على المغارة يندر، ولما يخلف أولاد ييجي يزَوّرها،
ويبرم حول النبي سبلان سبع مرات.
في يوم من الأيام، نزلت ستي على الوادي حتى تغسل اواعيها، حطت الدست على الأرض
وطلعت حتى تجيب عودين حطب حتى تشعّلهم وتغسل. لما رجعت ما لاقت الدست. صارت تبكي،
وسالت الراعي إذا شاف حدا ماشي مع دست، قاللها في زلمه قاعد جنب اليرنحينة وجنبه
دست. نزلت ستي ولاقت الزلمة صار أعمى وقاعد وحاطت الدست جنبه. سيدي سبلان الله بستر
على خاطرة انتقملها لستي وعماه للحرامي.
كانت الناس تجيب المعزا ويطوفوها حوالي سيدي سبلان سبع مرات ويخلّوا باب المقام
مفتوح، وكان أحسن كرّاز (تيس الماعز) فيهم يفوت على سيدي سبلان ويصير يشطّر وما
يمشي مع القطيع. يقولوا "هذا الكراز للمقام" ويتركوه لسيدي سبلان، وشوي شوي كتروا
العنزات وصاروا يسرحوا لحالهم في الجبال وينزلوا على وادي الحبيس وعلى البلد. واللي
يحاول يسرقهم أو يمد أيده عليهم تيبّس أيده.
في يوم اجا واحد وفات على المقام وسرق الكرّاز، ولما مسكوه وجابوه على المقام حتى
يحلف يمين انه هو السارق، حلف كذب وفجأة انقلعت عينه وبوزه التوى. سيدي سبلان عصبي
وكانت الضربة تبيّن بساعتها".
تستمر ضيا في انتشال ما تبقى من ذكرياتها وتحدثنا عن الانجليز: "أنا خلقت بالسنة
اللي دخلت فيها الانجليز... شو بدي احكيلك عن الانجليز، ذبّحونا الانجليز. كانوا
ييجو ويكسّروا خوابي الزيت ويطولوا السميدة والعدسات ويحطوهم بنص المصطبة ويخبطوهم
ببساطيرهم، ويلمّوا الشباب ويكتفوهم ويحطوهم بسهلة، ويلمّوا النسوان ويكتفوهم
ويحطوهم بسهله تاني.
الثوار من كل البلاد كانت دايري بالجبال، وتفوت على القرى حتى توكل وتشرب، وبعد ما
تطلع يدخلوا الانجليز ويقولولنا كانوا الثوار عندكم. يعني احنا شو بدنا نعمل،
مجبورين نستقبل الثوار ونطعميهم. يعني اليوم يتغدّوا بحرفيش وبكرا يتغدّوا عنا،
وبعدها بدير القاسي واللي وراها بسحماتا وهيك.
بذكر منهم شخص لقبة الاصبح، مره اجا عنا وأنا كنت حبلى بمحمد ابني، اجا وتغدّى
وقاللي بخاطرك وانشا الله برجع وبلاقيك جايبي الصبي، قلتله الله يسهل عليك. نزل على
وادي الحبيس وطلع على المنطقة بين البقيعة وبيت جان وهناك طوّقوه الانجليز وقتلوه.
مره دخل الانجليز على البلد، وكان في واحد من حرفيش هارب منهم، لبس تخفيفه وعمل
حاله مرا وقعد بين النسوان. قامت مرا بدها تبوّل، وشلحت وقعدت قدام النسوان، وهو
قاعد متخبي بينهم (ضاحكة). كانت الانجليز تعذّب الرجال كتير وكانوا مرات يشلحوهم
البنطلون ويقعدوهم على الصبر.
مرّة سلفي رضا فاعور، راح على الدير عند أهل مرته، قام أخوها وكان عنده فرد مصدّي
خربان وأعطاه إياه حتى يبيعه، بنفس النهار الانجليز حوطت حرفيش والدير وسحماتا، وهو
راجع بالليل كبشوه ولاقوا معه الباروده، كتّفوه بسبلان بالشجرة وطخّوه. وضلوا مرمي
حتى طلعت الشمس. وبعدها لمّوا كل الرجال وأخذوهم على كم المالكية وما بقي ولا رجل
بالبلد حتى يقبره. أبوي كان مختار البلد ولهيك ما اخدوه على الكم، حفر القبر ودفنه
بدمّه. وهاي الانجليز هيك عملت فيها.
تم احتلال سبلان في 30 تشرين الأول/أكتوبر 1948، في سياق عملية حيرام، عندما استولت
القوات الإسرائيلية على الجليل الأعلى.
مدخل المقام
محطات من رحيل ضيا فاعور
عندما سألنا الجدة ضيا: شو متذكري من يوم الرحيل؟ أجابت بسرعة وكأن ذاكرتها انتعشت
فجأة:
"متذكري كل شي، صارت الناس تقول "اليهود استحلوا (احتلوا) حيفا وصاروا بسعسع،
استحلوا حيفا وصاروا بسعسع.
النسوان هربت واخدت أولادها وراحت على الوعر، الشباب انهزمت والختياريّه ضلت
بالبلد. أبوي كان مختار، لما اجو عليه اليهود رفع البيرق (العلم) الأبيض على سطح
المقام بين القبب. ولما شافت اليهود البيرق، طبطبوله على ظهره وقالوله انت مختار
منيح وراح تعيش مثل ما كنت عايش على زمان الانجليز وأحسن، بس وين أهل البلد؟، قالهم
والله أهل البلد طلعت على الوعور وخايفين من الطيران والجيش. قالوله اطلع ونادي انه
اليهود طوّقوا البلد واللي برجع قبل الساعة ستة الصبح بموت. طلع أبوي ونادى لأهل
البلد انه ما يرجعوا إلا لبعد الساعة ستة الصبح.
لما صارت الساعة ستة الصبح، سحبنا حالنا ورجعنا على البلد وانبسطت الناس. بعد أربع
أو خمس أيام اجا الجيش وطوّق البلد كمان مره، وهاي المره كان معهم كتير عرب يعني مش
كلهم يهود، وطلبوا من النسوان تذبح الدجاج وتطبخ للجنود. بذكر انه ذبحنا 100 طير
دجاج، وبعد شوي. اجو قالولي انه زوجي صالبينه وبدهم يطخّوه، رحت اركض وشفتهم
صالبينه، قال لي روحي قولي لامي تنزل عند علي هاني ونصيف من حرفيش حتى يحكوا مع
الجيش انه ما يقتلوني.
نزلت أم زوجي على حرفيش، وبالطريق سبّقولها المطوقين وقالولها ارجعي يا مرا أحسن ما
نطخّك، قالتلهم ما بدّي ارجع بدي أجبلكم سمن حتى اطبخلكم الدجاج. تركوها ونزلت عند
نصيف وأجا وفك جوزي وما طخّوه. بعد شوي اجو صففوا الرجال بصف والنسوان بصف، وقالوا
انه اللي بتواجد بالبلد بعد بساعة راح نقتله.
أنا صرت اركض لجهة وجوزي يركض لجهة تانية، أنا وأولادي الأربعة انهزمنا على وادي
الحبيس، ومن هناك طلعت على حرفيش عند دار محمد نمر اللي استقبلوني وضيفوني ببيتهم.
أهلي هجّوا على لبنان وما عدت شفتهم، وجوزي كان متخبي بالوعر وتاني يوم اجا على
حرفيش.
أجا جوزي وخاف علي وعلى أولاد وحملّي على الجمل، وحط عليه فراش وكيلو سميدة وبعت
معي واحد بالإيجار يوخدني على لبنان، وقاللي إن لاقيت الأوضاع تحسنت بروح اجيبك من
لبنان وان لاقيت الوضع صعب بلحقك لهناك.
لما صارت الناس تقطع قسائم ولما صاروا يعملوا احصى انفس، راح جوزي حتى يجيبني من
لبنان، ورجعنا عن طريق مرج سعسع وعبرنا من جنب صيرة (حظيرة). بذكر انه ابني محمد
كان حاطت بجيابه علب سردين من العلب اللي اخدناها من الإعاشة بلبنان، وبنتي انصاف
كانت ترضع بعدها. لما قرّبنا على الصيرة، قاللي جوزي اسبقيني انت والأولاد لأنه
الجيش ممكن يكون قاعد بالصيرة، وأنا بمشي وراكو. الدنيا حوالي نص الليل وبرد كتير.
لما صرنا على سوا الصيرة سمعت صوت طقّة بارودة، خفت ورجعت لورا واللا فزوا حوالي 30
جندي بوجهي، صرت اصرخ وأقول حريم حريم حريم... صارت الأولاد تزعق وتبكي، اجو وحطّوا
أيديهم على تمهم وصاروا يتنصتوا حتى يشوفوا إذا في حدا معي. اجا واحد منهم وقاللي
مين معك؟، قلتله ما معي حدا. قاللي كيف جاي لحالك، قلتله وجوزي بحرفيش وأهلي
بلبنان. وأنا بدّي أروح عند جوزي. قاللي لا، اللي بحرفيش بحرفيش واللي بالرميش
برميش، ولو انت زلمه اسا متّ هون، روحي ارجعي على رميش. جرّوا الأولاد معي ووصلوني
من تحت الشارع وقالولي روحي على رميش وصاروا يطخوا بين اجرينا. نزلنا وكان في هناك
عين، قعدت على رأس الحجز وحطّيت بنتي على صدري وقعدت ارضّعها وابني كنعش بجدوعة
(شجرة صغيرة) وصار يطول سردين ويدحش بالجدوعة والدنيا تنعف علينا ثلج ثلج. وييجو
البنات والأولاد ويقولوا يمّا بدنا نموت وأنا اقولهم الحمد الله.
فجأة اجا عليّ واحد من ميعار، سألني شو بعمل هون فحكيتله قصتي ولما سألته هو شو
بعمل هون قاللي، إحنا كنا حوالي 12 شخص من ميعار راجعين على البلاد، ولما سمعنا صوت
رصاص، أنا قلتلهم أنا ما بدّي أكمل وقررت ارجع على رميش.
ضبضبلي الأولاد وحطهم على ظهر الفرس، ومشّاني أنا بالأول لأنه كان خايف من
الحرامية، ورجعت على رميش أنا وأولادي، كنا كتير تعبانين وبردانين واجرين الأولاد
كانت وارمي من البرد والمشي. قعدنا برميش ثلاث أو أربع أيام، وبعدها بعتولي دار عمي
واحد درزي من حرفيش يجيبني، ولما رجعنا معه ما اجينا الطريق اللي من ناحية سعسع
واجينا من نواحي دير القاسي. بالطريق لاقينا حوالي 20 مهرب ومحملين ع ظهورهم أغراض
من لبنان ومعهم بواريد. احنا خفنا كتير وما حسّيت واللا الدرزي هرب على الوعر
وتركني لحالي أنا والأولاد. المهرّبين شافوني ووقفوني بس بعدين تركوني امشي على
حرفيش.
ما تبقى من سبلان..
لم يبق من القرية سوى المقبرة والبئر وأربع بيوت، منهم بيت المختار
حسين عمر والد ضيا وبيتها التي تزوجت به. اليوم تستعمل هذه البيوت لخدمة مقام النبي
سبلان وزواره. أما عن سكان القرية، فقط رحل معظم أهل القرية الى لبنان، بينما لجأت
أربع عائلات فقط الى القرى المجاورة. ويقدّر عدد مهجري سبلان اليوم في فلسطين
المحتلة حوالي 200 نسمة تقريبا.
مقبرة القرية
ويضيف محمد فاعور: "بعد الاحتلال عمل أهل حرفيش في أرض سبلان، وكانوا يضمّنوا
أراضيها لبعض ويحرثوا ويحوشوا والربح يستعملوه لترميم وبناء المقام. بسنوات الستين
تقريبا هدّمت بيوت القرية، وحصلت الطائفة الدرزية على ارض سبلان والمقام بدعم من
الحكومة الإسرائيلية. واليوم تُستغل الأرض في تطوير مشاريع وأبنية لخدمة الطائفة
الدرزية والمزار".
------------------------------
رنين جريس هي مركزة مشروع التاريخ الشفهي في جمعية زوخروت (ذاكرات)، حيفا؛ نبال
فاعور-هواري هي صحافية وابنه قرية سبلان وتقيم في ترشيحا[email protected]
شارك بتعليقك