(قُبيْل سنة 1948 م )
الاسم :
"سبلان " إسم قرية صغيرة تقع في شمال فلسطين تبعد حوالي 20 كلم عن حدود بلدة رميش اللبنانية. أهالي القرية و القرى المجاورة يقولون بأن "سبلان" هو إسم أحد الأنبياء , مع العلم بأن هذا الإسم ليس مذكوراً في القرآن الكريم فإن أهالي القرية يعللون السبب بأن كثيراً من الأنبياء لم يأت على ذِكر أسمائهم في القرآن , إذ يقول الله عز و جل مخاطباً رسوله محمد صلى الله عليه و سلم : [ ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك ] سورة غافر (78) . و يوجد في القرية مقام لهذا النبي أو الولي يُقدسه جميع أهل المنطقة و بخاصة الطائفة الدرزية , و يقوم جميعهم بزيارة هذا المقام حتى غلب عند أكثرهم تسمية القرية بإسم "المزار" بدلاً من "سبلان".
الموقع :
تقع قرية سبلان على رأس جبل تحيط به غابات شجر السِنديان من جميع الجوانب , و يوجد بين السِنديان أنواع أْخرى من الأشجار الوعرة على سفوح الجبل . أما أعلى الجبل فهو أرض منبسطة خصبة . و تعيش في الغابات وحوش كثيرة منها : الذئاب و الضباع و الثعالب و بنات آوى , و كانت النمور تـُرى أحياناً . و تقع في أسفل الجبل من الناحية الشمالية قرية "حـُرفيش" و غالبية أهلها من الدروز و فيها قليل من النصارى و المسلمين . و تتبع قرية سبلان بالإضافة إلى قرى سعسع و الصفصاف و الجِشّ و قرية حـُرفيش إلى قضاء صفد , و تقع على مسافات أبعد بلدات : الدير القاسي، سحماتا ، طَرشيحا والبقيعة. و هذه القرى الأخيرة تتبع لقضاء عكا .
النشاط الاقتصادي :
• الزراعة : تعتمد قرية سبلان مثل غالبية قرى المنطقة على الزراعة و من أبرزها :
1. التبغ : و الذي يُسمى أيضاً (الدخّان) و سنُفصّل شيئاً عن زراعة و تصنيع التبغ لأنه كان المادة الأساسية في حصول السكان على النقود لأنه لم يكن في القرية موظفون تابعون لقطاع الدولة أو القطاع الخاص.
وكان يعمل رجال و نساء و أولاد القرية في زراعة و تصنيع التبغ حيث كانوا يجمعون بُذور التبغ الجافة في آخر الموسم ( أواخر الصيف ) , وهي بُذور صغيرة جداً أصغر من بُذور التين . و في موسم الزرع يـُرشّ بِذر التّبغ في مشاتل مخصصة لها على أن تكون خصبة و قريبة من الماء , لأنها بحاجة إلى السقاية يومياً برشاشات مناسبة . ولذلك كانت مشاتل سبلان في أسفل الجبل في وادي من الناحية الجنوبية .و تؤخذ فسائل التبغ من المشاتل و على جُذورها بعض من الأتربة و تزرع في الأرض المـُعدة لها إعداداً جيداً, حيث يحمل الرجل بيده (العُتول) الذي يغرزه في الأرض , و يصب عليه الماء من الإبريق الذي يحمله بيده الأخرى ثم يسحبه من الأرض , و تكون مع الرجل امرأته التي تحمل الفسائل , فتغرز الفسيلة في الحفرة و تطمرها بالتراب بعد أن يكون الرجل صبّ عليها مزيداً من الماء . و بعد نمو التبغ يجري إلى قطف الأوراق ثم شكّها بالميبر و الخيطان ثم تعليقها لتجف, و في الليل تتم تغطية التبغ المعلّق في السقالة لحمايته من رُطوبة الندى الذي يحصل من برودة الجو . و قبل بدء مطر الشتاء تُجمع كبوش التبغ الجاف وتُعلق في سُقوف البيوت, ثم تُوضب في بالات للبيع . وكان يوجد في حيفا شركة الديك التي كانت تشتري التّبغ من المزارعين .
2. القمح : يعتبر القمح من الزراعات الأساسية , و كان أهل القرية يزرعون القمح كما يزرعون التّبغ , و كانت زراعة القمح من أجل استهلاكه أكثر من بيعه , لأنه كان عماد غذاء الناس . و بحكم كون غالبية السكان من الفلاحين و المزارعين فقد كانوا يزرعون حاجيتهم من العدس و الحمص و الفول الخضار . و كانوا أيضاً يستفيدون من النباتات التي تنبت طبيعيا في الأرض . و كانوا يزرعون الشعير و الجلباني و الكرسنة لدوابهم , و يحفظون تبن القمح و تبن العدس و الكرسنة لإطعام الدواب في فصل الشتاء . و إذا نفذ التبن و مُنعت الدواب من الخروج إلى المراعي بسبب المطر , كان السكان يذهبون إلى غابات السنديان المحيطة بالجبل فيُقطعون الأغصان و يقصفون الأطراف بأوراقها الطرية و يحملونها إلى الزرائِب لإطعام الدواب .
3. الأشجار المثمرة : ومن أهمها : التين ,العنب ,الزيتون ,التفاح و السفرجل . و كان أغلب أهل القرية يملكون كروما من العنب و التين و الزيتون و عدداً محدوداً من أشجار التفاح و السفرجل والمشمش. و كان أغلبية استهلاك السكان للتين و العنب , إذ كان يُشترى العنب من السكان و يُباع في المدن مثل عكا و حيفا .و كان يُصنع الزبيب و دبس العنب و التين المجفف و دبس التين حيث كان يُباع الزبيب و التين المُجفف .
• الصيد :
كان الصيد غالباً يجري في فصل الصيف حيث أن كثيراً من أنواع الطيور و العصافير تتكاثر حول شجر التين لأنه كان من أفضل الغذاء لها . و كان الناس يستعملون " الدِبق " لصيد العصافير و كان أغلبية الصيادين من صغار الشباب الذين يستطيعون تسلق الأشجار بِخفة . و كان الواحد منهم يصيد في اليوم ما بين خمسين إلى مئة طير . و كانت تعيش حول القرية أنواع من الطيور و بخاصة طير الحَجَل ( الشنّار ) خاصة في موسم القمح , و كان يستعمل ما يسمى ب ( الخطاطير ) لصيد الحَجَل , و ذلك بوضع سنبلة قمح داخل مكان صغير يُبنى خصيصاً لهذا الغرض , و يُوضع على باب المكان خيط مجدول , فيمد الحَجَل رأسه إلى سنبلة القمح من خلال الخيط فيطبق الخيط على عنقه , و يكون طرف الخيط الآخر مربوطاً بحجر فيبقى الطير مربوطا في مكانه إلى أن يأتي صاحب الخطاطير . و تكون هذه الخطاطير كثيرة بحيث إذا فشل بعضها ينجح بعضها الآخر .و أحياناً يختنق الحَجَل و يموت من شدة فرفرته , و أحياناً يأكله حيوان بري مثل ثعلب أو واوي أو هر . و صاحب الخطاطير يتفقدها مرتين يومياً مرة وقت الضحى ومرة عند المغيب و يُصلح ما يجده قد خُرب. ومن أنواع الصيد أيضاً صيد بعض الحيوانات من أجل فِرائها مثل ( السمور ) و هو حيوان يُشبه الهر لكن جِلده ثمين , و كان يجري الصيد بالجفت و الخُردُق. و أيضاً كان يصطاد السمك من الوادي ولكنه كان قليلاً .
• السياحة :
من الأمور البارزة في سبلان و التي أعطاها شهرةً وجود المقام أو المزار الذي يقدسه الناس هناك. و لقد سبق و أن ذكرنا أن الغالبية يعتبرون سبلان نبياً و البعض يعتبره ولياً ( أي رجلاً صالحاً ), و الدروز يعتبرونه أحد الحدود الخمسة التي يقدسونها . و لذلك تختلط الخرافات بغيرها في شأن صاحب هذا المقام .
كثير من أهل المنطقة يقولون : ( عنزات سبلان تسرح و ترجع وحدها ولا يأكلها الذئاب ), و هذا غير صحيح لأن الذئاب و الضباع كانت تأكل منها . و يُقال : ( إذا حَلَف شخص في المقام كاذباً يفضحه الله فوراً ) , و لهذا كان الناس يأتون من القُرى المجاورة من أجل أن يُقسموا اليمين لتبرئة أنفسهم من تهمة ما ، و كان كثير من المُتَّهِمين يُصرون على الذي يتّهمونه و يُنكر بالذهاب إلى المقام و الحلفان داخله . و من الأمور التي لها قداسة عند غالبية الناس هنا هي الشجرات المباركات . و هي مجموعة من شجر السنديان في بقعة لا تتجاوز مساحتها ( 1000 متر مربع ). و تقع هذه الشجرات بين قرية سبلان و قرية حُرفيش و لكنها تتبع لسبلان . ميزة هذه الشجرات عن غابة السنديان حولها أنها شجرات باسقات طول الواحدة منها يزيد عن خمسة أمثال طول أشجار الغابة , و هي من الأشجار المُعمّرة . و يبدوا أن تميزها هذا في الطول أوهم الناس أنها شجرات مقدسة و بخاصة أنها تابعة لسبلان النبي حسب ظنّهم . و لذلك كان كثير من الناس يُقبّلون جُذوع هذه الأشجار حتى يمرون بينها ، و كانوا يعلقون فيها الأقمشة ( الستائر ) على غِرار الستائر التي يعلقونها داخل المقام ، و لكن هذه الستائر المُعلقة غلى الأشجار تَبلى مع الوقت بفعل المطر و الريح و تتمزق و تُصبح ( شراطيط ) أي قُماشاً مُمزقا ، و لذلك طغى على هذه المجموعة من الأشجار إسم ( أُم الشراطيط ).و كانوا احيانا ينذرون النذور لإضاءة هذه الأشجار بالليل بإشعال الشموع . و بطبيعة الحال فإن مثل هذه المُعتقدات هي دون أصل في الدين و هي مجرد خُرافات . و كانوا ينذرون النذور لسبلان إذا : شُفي المريض ، أو حملت المرأة التي لا تلد ، أو وجد الفاقد لبعض ماله ما فقده ... إلخ . و كان خادم المقام يطوف على القُرى و يجمع النُذور .و لكن النُذر الأكبر هي زِيارة المقام . و هذه الزيارة قد تكون مع وفد محدود العدد ، و قد تكون مع عدد يتراوح بين المائة و مئات عدة . حيثُ عندما يكون عدد الزوار كبيراً تنشغل بهم البلدة . أصحاب النَذر الذين يأتون للزيارة يدعون معارفهم من قرى المنطقة ، و يأتي المدعوون في يوم الزيارة و يأتي أصحاب الدعوة قبل يوم و معهم الذبائح و الأرُز و السمن و كل لوازم الطبخ لإعداد الطعام للمدعوين و لأهل سبلان ، و يوجد في المقام أدوات الطبخ من قدور كبيرة و صدور و حطب و ماء كما يوجد مكان للاحتفال و الدبكة ، و هذه الزيارات عادة تحصل في فصل الصيف و المساحات في القرية واسعة . و غالبية الزوار يأتون وقت الضحى و يعودون قبل المساء . و الزوار ليسوا بحاجة إلى مراحيض، فهم يقضون حاجتهم في أطراف القرية ، و أهل القُرى كانت بُيوتهم في الغالب دون مراحيض و يذهبون إلى الخلاء خارج القرية .
الماء في سبلان كان قليلاً ،فالوادي ( وادي الحبيس ) كان بعيداً في أسفل الجبل و الناس ينقلون الماء على الدواب ، و لكن الماء كان من أجل الزوار فقط ، فقد كان في سبلان بئران كبيرتان من مياه المطر , واحدة ماؤها نقي سائغ للشرب و الآخر يستعمل لسقي دواب الزوار . و كام مفتاح البئر مع خادم المقام . و خادم المقام كان قصاباً هو من يذبح الذبائح و يساعده غيره عند الحاجة. و كان هو من يهيئ الماء و الحطب و القدور ، و أصحاب الزيارة يقومون بالطبخ . و أحياناً كانت الصدور و الصحون و الصواني لا تكفي , فيقوم خادم المقام باستعارة ما ينقص من بيوت أهالي البلد . و أحياناً كانوا يغسلون الحصيرة أو عدة حُصُر و يسكبون الأرز عليها و يبقى المرق في الأواني .
وصف المقام
كان المقام مؤلفا من أربعة غرف كبيرة ، و في كل من القاعتين الجنوبيتين يوجد محراب ، أي أن المقام عبارة عن مسجد , و القاعات مفتوحة على بعضها . و يوجد في القاعة الجنوبية الغربية أقمشة مُعلقة على جدرانها كلها . و هذه الأقمشة منها فساتين و منها قطع أقمشة غير مُخاطة , يأتي الزوار بها للمقام و يقوم غالبية الزوار بطلب قطع صغيرة من هذه الأقمشة , يطلبونها من خادم المقام ليتباركوا بها ، فيربطوها بأعناقهم أو أعلى أذرعهم أو يلفوا بها رؤوسهم .و على سطح المقام يوجد أربع قباب , قُبتان كبيرتان و قبة وسط و رابعة صغيرة . كان أولاد البلد ( سبلان ) يلعبون على سطح المقام و يركضون لتسلق قبة كبيرة ركضاً ، و كان قلةٌ منهم من يستطيع ذلك .
كان أمام المقام مكان مُبلّط بِبلاط مقطوع من الصخر ، و هو مربع كبير و جميع جوانب هذا المربع مبنية للجلوس عليها . و كان هذا المكان مسقوفاً بعريش من العنب ، إذ كانت عدة اشجار من العنب تُغطيه تَغطية كاملة ، و كان في وسط المربع عمود خشبي و على محيط المربع توجد أعمدة لتحمل الجسور الخشبية العالية التي يمتد عليها عريش العنب . و كانت حلقات الدبكة تُعقد في هذا المكان ، و العتابا و الناي و المِجوِز , و مباريات قوّالي الشعر الشعبي و الزجل .
في بعض الزيارات يأتي كثير من الزوار ركوباً على الخيل . و يوجد في سبلان مكان اسمه (الميدان ) ، و يتباهى كثير من الزوار بفرسه ، فينتصب سباق الفرسان في الميدان أمام حشد الزُوار الذين يستمتعون بهذه الرياضة . و هناك ميدان آخر قرب المقام و لكن مداه أقصر من الميدان الأساسي .
و قُبيل إنتهاء الزيارة يحضُر الشخص الذي كان نُذر الزيارة ويركب فرساً و عليها سرج مُزيّن ، و يلتف حوله الشباب ، و تمشي النساء من الخلف و يبدؤون بالطواف عدة أشواط حول المقام و حول بيوت القرية الملاصقة للمقام من ثلاث جهات الشمالية و الغربية و الجنوبية ،( من الناحية الشرقية، أمام المقام يوجد العريش الكبير حيث تُعقد جلسات الشِعر و حلقات الدبكة التي ذكرناها ). أثناء الطواف تكون ( المُحَورَبَة )و يتخللها الزغاريد ، و ينتهي ذلك بالدعاء إلى الله ، ثم ينصرف الزوار كُلٌ إلى بلده . و ينشغل نساء سبلان بِغسل القدور وآنية الطعام ، و يوزع خادم المقام ما بقي من الطعام و اللحوم و السمن و الأرز و غيره على أهل البلد و بخاصة النساء النشيطات في تنظيف الآماكن و غسل الآنية .
هذه نبذة عما كانت عليه الحال في قرية سبلان قبل ستين عاماً ، أي قبل الاحتلال اليهودي لفلسطين. أما اليوم فإنه لم يبق في سبلان أحدٌ من أهلها ، بعضهم هاجر منها إلى لبنان سنة 1948، و بعضهم الآخر هاجر إلى قرى فلسطين التي لم تطرد إسرائيل أهلها ، و بخاصة قرية حُرفيش المجاورة لسبلان لأن أهل حُرفيش غالبيتهم من الدروز . و قد استلم الدروز خدمة مقام سبلان و مازالوا يخدمونه و مازالت الزيارات تتم إلى مقام سبلان ، و لكن من القرى الدرزية بشكل خاصو من المسلمين الذين لم يهاجروا من القرى المجاورة لسبلان إلى خارج فلسطين .
نسأل الله أن يمكننا من العودة إلى فلسطين و إلى سبلان ، ليس تحت حكم اليهود ، بل أعزاء منتصرين.
شارك بتعليقك