هذه قصة يوسف ذياب من عنَابة في أيام السّفر برلك على لسان راويها :
يوسف ذياب، من قرية عنّابة، قرب الرملة، اصطاده الأتراك في السّفر برلك، وكان أعظم ما يتقنه هو الضّرب (العزف) على الشبّابة، فنقلوه الى الأناضول ليدرّبوه على موسيقى الجيش، والتي كان فريقها في الأغلب يتقدم عازفا أمام المقاتلين، فيُستشهد العديد منهم كونهم في الخط الأول من جبهة القتال.
بعد انتهاء التدريب بدأوا ينقلونهم الى شرق تركيا تمهيدا لبلوغ جبهات القتال التي كانت مستعرة هناك, وخاصة مع الانجليز.
لاحظ يوسف أن بعض أفراد فيلق الموسيقى يختفون من القول (وهو ما يعادل الكتيبة بالعربي), فسأل من حوله كيف اختفوا? فكان الجواب أنهم هربوا شرقا حتى يصلوا الهند، حيث ليس لتركيا سلطان على الهند. فما كان من يوسف إلا أن عزم أمره على الفرار ثمّ اختفى.
في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، كان في شوارع أحد المدن الهندية رجل يلفّ جسده بثوب هندي ويجلس القرفصاء بين حشود الهنود، ولكنه كان يلقي أذنه لرجال يتكلمون العربية في السوق بابتهاج. فمال إليهم وسألهم هذا الهندي بالعربية من أين هم؟ فقالوا من فلسطين؛ فسألهم: كيف سمح لكم الاتراك بالخروج والقدوم الى الهند التي هي تحت حكم الانجليز؟ فأخبروه أن الأتراك انهزموا قبل حوالي عشرين سنة، وأن الإنجليز هم المسيطرون الآن في البلاد.
قام يوسف، وتوجه غربا مشيا على الأقدام، حتى وصل الكويت, حيث عمل فيها فترة عند الكويتيين، ثم طرقها مشيا إلى العراق وإلى شرق الأردن، فإلى عنّابة عند الرّملة. فوجد زوجته قد توفّيت، وأن ابنه محمد صار رجلا. وكعادة اهل القرى ما كان أسرع أن تزوّج الثانية التي خلفت له ولده الثاني سليمان.
وفي الهجرة، التجأوا لقرية بجانب قرية عابود أول الامر. الرّمد الربيعي ينتشر في الربيع. سليمان أصابه الرمد الربيعي. وكان في كنيسة عابود مركز صحي يأتيه القرويّون من كل المناطق ومن بينها دير بلوط ورافات مثلا للمداواة الأوّلية مجانا.
لمّا جاء دور سليمان، دخلوا الكنيسة، والسّسترات استلمن سليمان، فرأى أبوه الاورج الموسيقي في الكنيسة، فطلب من السّسترات ان يسمحن له برؤيته، فوافقن، فتركنه يتقدم الى الأورج. فما كان إلا أن جلس على كرسي الأورج ورفع شقال الديماية جانبا وبدأ يعزف. فلما تعالى صوت الموسيقى الموزون والمتقن والأخّاذ تحت أصابع هذا الفلاح العجوز الذي يلبس قمبازا، أخذهنّ العجب العجاب والأمر الذي يطير له الصواب !!!
السفر برلك له قصص كثيرة ومثيرة تُروى بين الحين والحين، ولكن ما حصل في فلسطين كان أبلغ، فراحت هذه القصص وأمثالها أدراج الرياح.
شارك بتعليقك