Translated from Rana Abdulla’s Article, My Father’s Private Garden
جبال بلعا كما رأيتها وكما وصفها أبي:
تتميز بلعا بجبال رائعة الجمال, بصخورها البيضاء المدهشة. كانت تبدو من بعيد و كأنها طافية على بحر متموج من أزهار الليلك ذات الأطياف اللونية المتنوعة ، البنفسجي الفاتح و الأبيض و الزهري تحت خضرة أشجار الزيتون و اللوز و الكرز. لم تكن الألوان فاقعة هناك, بل هادئة متناغمة تلتقي مع بعضها بانسجام تام لا يشوبه خلل. لقد بدا كل شيء هناك و كأنه رسم طبيعي ساحر- تلك الطبيعة المتجلية على أناسها, هكذا كان بحق الإنسان الفلسطيني الحر.
آلاف من أشجار الزيتون في بلعا ، الصغيرة منها و الكبيرة تكسو سماء بلعا كسقوف حانية . أشجار جميلة منكفئة تنمو في كل بقعة قد تقع فيها بذرة تمد جذورها في الأرض و تحرر أغصانها في السماء. كانت تلك الأشجار تشبه أهلها بحق. كانت تلك الأشجار الصغيرة بخضرتها النضيرة تنمو في كل مكان على التلال القديمة , مانحة الحياة للجميع.
إن جبال بلعا متعة للنظر, وليمة شهية للعين على امتداد بساتين الزيتون و الحمضيات و الرمان.. كانت تبدو كمزرعة غنية.. تمتد على مد النظر. تحت تلك الأشجار كانت يمتد المنظر الطبيعي الخلاب, العشب الفتي الأخضر كالزمرد المنثور مع آلاف من شقائق النعمان, لون أحمر قانٍ يتخلل الملايين من أزهار البابونج البيضاء , و السوسن الأزرق و مساحات واسعة من أزهار أخرى ذات ألوان زاهية. كانت ثمة صخرة جبلية شديدة الانحدار ذات طبقات أفقية عديدة تبدو كشرفات متلونة بالأبيض و البني الفاتح و البنفسجي بادية على المنحدر. كانت الأرض تتحول في الربيع إلى امتداد أخضر مائل إلى الفضي يبهج الناظرين بجماله, كسجادة فارسية من العشب و الزهر المنثور كأحجار كريمة من العقيق و الياقوت و الزمرد و حبات الندى البراقة كملايين من الماسات تضفي على هذا المزيج الخلاب مسحة من الكمال. يبلغ العشب في حدائقنا في كندا هذه الدرجة من الزهو, إلا أنه لا يغدو كذلك إلا بعد إضافة المغذيات و الأسمدة و العمل على تشذيبه و قصه. لم يكن الأمر كذلك في بلعا , فالتربة خصبة جداً, كل شيء طبيعي هناك, علماً بأن إسرائيل كانت تحظر دخول الأسمدة الصناعية إلى الأراضي الفلسطينية.
تستطيع في بلعا أن تقطف الزعتر البري من البساتين و التلال. ذلك النبات الذي تغمسه بزيت الزيتون و تصنع منه فطيرتك اللذيذة. لا يصل الزعتر للفطيره على تلك الشاكلة بالطبع إذ يجب تجفيف الصعتر أولاً ثم طحنه مع البذور المحمصة كبذور عباد الشمس و الحمص ثم يضاف له الملح و السماق و السمسم المحمص . عندها تستطيع رشه على رغيف من خبز القمح المشبع بزيت الزيتون. كنا نخبز خبزنا على التنور، وهو فرن مصنوع من الطين والقش. كنا نرق العجين على حجر ملساء مدورة يبلغ عمرها مئات من السنين ... تلك كانت من أمتع الأمور التي يقوم بها الفلاحون الفلسطينيون.
كانت بلعا مشهورة بأهلها المثقفين ( إضافة إلى الزيتون والدراق والرمان.) أولئك الذين هجروها طلباً للعمل و الرزق. كانت المدن الفلسطينية قد بدأت باجتذاب القرويين إليها, و خاصة أولئك الذين يجيدون القراءة و الكتابة. و كانت مدن القدس و يافا من أبرز المدن التي يقصدها القرويون من بلعا, و الذين كانوا غالباً ما يعملون في المؤسسات الثقافية والدينية. كما هاجر العديد منهم إلى الكويت كما فعل أبي .
أحضر أبي من بلعا بذور نباتات و قام بزراعتها في منزله في الكويت. لقد نجح بزراعة شجرة خروب. كانت أمي تعد لنا من ثمار الخروب شرابا في كل رمضان و هو الشراب المتعارف عليه في هذا الشهر الكريم. كانت شجرة الخروب تلك تمدنا بهذا الشراب على مر أيام الشهر, أما بالنسبة لي , فلم يكن يروقني طعمه شأني شأن جميع الأطفال, لقد كان الكبار فقط من يرغب باحتسائه.
لم تتمكن أمي التي تنحدر من الساحل الفلسطيني, من نسيان أهلها التي ترعرعت بينهم هناك, لقد كانت دائمة الحنين لمسقط رأسها. كانت تشتهي ثمار الجميز التي لم تكن تنمو في جبال بلعا .
كانت العناية بالحديقة أمراً ذا شأن كبير بالنسبة لأبي, بالنسبة له كانت كرباط يجمع العائلة كلها. لطالما تحدث عن جبال بلعا. كان يقول: " لقد اعتدنا على معاونة بعضنا البعض أيام الحصاد, فكنا نواصل العمل معاً حتى يفرغ آخر واحد بيننا من حقله. كانت الحياة مستحيلة لولا ذلك. انظري إلى يا ابنتي ، أضجع اليوم على سرير, و أقعد بلا شغل ، آكل أفضل الأطعمة و أسلم جسدي للراحة ، لكنني. . . كما أخبرك يا ابنتي ، لا يغمض في الليل لي جفن."
قصدت أمي مع بناتي موطنها في أم خالد عام 2000 لأول مرة بعد خروجها منه. كانت معظم البيوت قد جرفت و لم تبق منها سوى بعض الآثار. عندما كانت تمشي بين حطام المنازل و تتحدث إلى العائلات هناك ، قبضت أمي على حفنة من تراب من أرضها ، قبلتها و رفعت بصرها إلى السماء, هناك فقط توجد العدالة وهناك فقط موطن كل حق. أجالت أمي طرفها لرؤية أشجار الليمون و الزيتون و انفجرت بالبكاء ( يا دار ما عدنا نزورك ). حاولت بناتي تهدءتها إلا أن ألم بكائها كان يفوق حدود الدمع و النحيب. لقد كان ذلك منزلها. استوطن في أرضها يهود عرب. أحضروا لها الماء لتشرب و سألوها عن سبب حزنها. أخبرتهم أمي: " هذه أرضي, و هذا بيتي" . فأجابوها: " ليس من خيار آخر أمامنا ، لقد أتت بنا الحكومة إلى هنا و نحن آسفون لأجلك".
و تبقى الحقيقة أن أمي هي من نفي عن موطنها و لم يكونوا هم اللاجئون مهما قالوا. مرت ستون سنة و الذاكرة لا تزال تنبض بالحياة. ذكريات عن الوطن الغالي فلسطين باتت كجراح لن تندمل أبداً, إن حب الوطن حالة مستعصية و ليس مجرد أزمة عابرة."
من شرفة منزلي مقابل ميناء سان جونز "نيوفنلاند" ، أقصى شرق كندا, أرى صخوراً تشبه تلك التي كنت أراها في جبال بلعا ، كانت تلك الصخور تلهم ذاكرتي الفلسطينية. و بدأت أحلم بتأسيس حديقة صخرية قد تشبه حديقة أبي في بلعا. إن تلك الحدائق الصخرية شائعة جدا في نيوفنلاند . لقد أخذتني تلك الروح و زادت من إعجابي بالحدائق الصخرية. هذا سيكون أمثل ذكرى عن الوطن! ستكون بمثابة ذكرى توقظ حلم العودة إلى فلسطين. كنت على ثقة بأنني سأتمكن من تأسيس تلك الحديقة الفلسطينية هنا. سأجمع الصخور التي تتواجد بكثرة هنا و سأكتب عليها أسماء أجدادي ، صخرة لكل اسم , ستكون ملهمتي في الغربة. هذا ما يجري في عروقي مجرى الدماء. لا زلت أعرف كل صخرة و كل شجرة من حكايات والدي التي كرراها على مسامعي مرات عديدة ، و ها أنذا أكررها اليوم على مسامع أولادي ليحيا الوطن في قلوبهم إلى الأبد.
سأتمكن من تعداد الأجيال التي تعاقبت في عائلتي ، لن تكون تلك المهمة صعبة علي إذ تعلمت ، حيث تركيبة الأسماء العربيه أن يذكر إسم الأب ثم الأجداد بعد الإسم الأول انتهاء بإسم العائله .. هكذا يذكر العرب نسلهم مع أسمائهم إذ يذكرون بالترتيب خمسة أسماء في الوسط بين الاسم الأول و النسب.
لقد علمني أبي كيف أعد أسماء أجدادي حتى أصل حامولتنا "محمود". أستطيع عد أسماء أجدادي حتى النسب العشرين. عشرون جيلاً استشرفوا الوجود على هذه الأرض: بنوا البيوت ، غرسوا أشجار الزيتون و حصدوا الغلال ، كدوا و استراحوا ، تتخللهم حكايات الخلافات العائليه ومشاجرات الأصدقاء والجيران ، تعرضوا للخيانة كما عرفوا الإخلاص ، تلقوا الفشل كما نالوا النجاح ، عشقوا و تزوجوا ، أقاموا الأعراس و شيعوا الجنائز. كل هذا سيكتب على صخور حديقتي في كندا ، التي ستحكي التاريخ و تعيد الذكريات التي ستعيش إلى الأبد.
Rana Abdulla
Post Your Comment
*It should be NOTED that your email address won't be shared, and all communications between members will be routed via the website's mail server.